الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 406 ] وقال رحمه الله فصل : في " المقبوض بعقد فاسد " : أصله أن العقد الصحيح يوجب على كل من المتعاقدين ما اقتضاه العقد مثل ما يوجب التقابض : في البيع والإجارة والنكاح ونحو ذلك من المعاوضات اللازمة فإن لزومها يقتضي وجوب الوفاء بها وتحريم نقضها .

                وأما " العقود الجائزة " من الوكالات بأنواعها والمشاركات بأصنافها فإنها لا توجب الوفاء مطلقا ; إذ العقد ليس بلازم يجب الوفاء به ; بل هو جائز مباح وصاحبه مخير بين إمضائه وفسخه وإذا فسخه كان نقضا له ; لكن ما دام العقد موجودا فعليه الوفاء بموجبه من حفظ المال ; فإنه عقد أمانة .

                وأما تحريم العدوان كالخيانة فذاك واجب بالشرع لا بالعقل إذ يحرم عليه العدوان في مال من ائتمنه وغيره ; لكن العقد أوجب ذلك أيضا وزاده توكيدا .

                [ ص: 407 ] وأما وجوب التصرف عليه بحيث يكون العامل : في المضاربة والمزارعة والمساقاة إذا ترك التصرف الذي اقتضاه العقد : مفرطا فهذا هو الظاهر ; فإن العقد وإن كان جائزا فما دام موجودا فله موجبان : الحفظ بمنزلة الوديعة والتصرف الذي اقتضاه العقد . وهذا قياس مذهبنا ; لأنا نوجب على أحد الشريكين من المعاوضة بالبيع والعمارة ما يحتاج إليه الآخر في العرف : مثل عمارة ما استهدم . هذا في شركة الأملاك فكذلك في شركة العقود ; فإن مقصودها هو التصرف . فترك التصرف في المضاربة والمساقاة والمزارعة قد يكون أعظم ضررا من ترك عمارة المكان المستهدم في شركة الأملاك .

                ومن ترك بيع العين والمنفعة المشتركة ; لأنه هناك يمكن الشريك أن يبيع نصيبه وهنا غره وضيع عليه منفعة ماله فإذا كان العقد فاسدا لم يثبت جميع مقتضاه من وجوب التقابض والتصرف وحل التصرف والانتفاع ونحو ذلك فإذا اتصل به القبض فهو قبض مأذون فيه بعقد فليس مثل قبض الغاصب الذي هو بغير إذن ؟ ولهذا قال الفقهاء : ما ضمن بالقبض في العقد الصحيح ضمن بالقبض في العقد الفاسد كالمبيع والمؤجر . وما لم يضمن بالقبض في العقد الصحيح لا يضمن بالقبض في العقد الفاسد كالأمانات : من المضاربة والشركة ونحوها ; لوجود الإذن . ولهذا تنازع العلماء في حصول الملك بالقبض فيه وفيما يستحقه من [ ص: 408 ] العوض هل هو المسمى . أو عوض المثل أو نحو ذلك . وذلك أن الفرق بينهما من وجهين : أحدهما : أن ذلك قبض بغير إذن المالك وهذا قبض بإذن المالك .

                الثاني : أن هذا قبض اقتضاه عقد وإن كان فيه فساد وذاك قبض لم يقتضه عقد بحال ; ولهذا نوجب في ظاهر المذهب المسمى في النكاح الفاسد وفي المضاربة الفاسدة ونحوها على أحد القولين .

                فإن كان المقبوض به موجودا وأراد الرد رده وإن كان فائتا رد مثله إذا أمكن . فإذا تعذر رد العين أو المثل فلا بد من رد عوض مثل أن يكون المبيع ليس من ذوات الأمثال ; بل من ذوات القيم ومثل المنافع المستوفاة بالإجارة الفاسدة ومثل عمل العامل في المشاركة الفاسدة : من المساقاة والمضاربة ونحوها . فمن أصحابنا من يوجب رد القيمة في هذه الصورة كقول الشافعي بناء على أن المستحق رد العين أو المنفعة وقد تعذر عينه ومثله فينقل إلى القيمة كما لو ضمنت بالإتلاف أو الغصب .

                وطرد الشافعي هذا في المسمى الفاسد في النكاح والمغصوب : فأوجب مهر المثل ; بناء على أنه كان يجب رد البضع لفساد التسمية فلما لم يمكن رده رد بدله وهو مهر المثل وخالفه بعض أصحابه .

                [ ص: 409 ] والجمهور من أصحابنا وغيرهم وسائر العلماء أوجبوا بدل المهر المسمى مثله أو قيمته ; لا بدل البضع وهو الصواب قطعا ; لأن النكاح هنا لم يفسد فلم يجب رد المستحق به وهو البضع وإذا لم يجب رد البضع لم يجب رد بدله ; بل الواجب هو إعطاء المسمى إن أمكن وإلا فبدله فكان بدل المسمى هو الواجب وهو أقرب إلى ما تراضوا به من بدل البضع وفي سائر العقود إذا فسدت توجب رد العين أو بدلها . وظاهر كلام أحمد أن الواجب في المشاركة - مثل المضاربة ونحوها - المسمى أيضا : كالنكاح الفاسد على ظاهر المذهب . وهذا القول أقوى .

                بل الصواب أنه لا يجب في الفاسد قيمة العين أو المنفعة مطلقا وذلك لأن العين لو أمكن ردها أو رد مثلها لكان ذلك هو الواجب ; لأن العقد لما انتفى وجب إعادة كل حق إلى مستحقه والمثل يقوم مقام العين . أما إذا كان الحق قد فات مثل الوطء في النكاح الفاسد والعمل في المؤاجرات والمضاربات والغبن في المبيع : فالقيمة ليست مثلا له .

                وإنما تجب في بعض المواضع : كالمتلف والمغصوب الذي تعذر مثله ; للضرورة ; إذ ليس هناك شيء يوجد أقرب إلى الحق من القيمة فكان ذلك هو العدل الممكن كما قلنا مثل ذلك في القصاص [ ص: 410 ] ودية الخطأ وأرش الجراح . واعتبرنا القيمة بتقويم الناس ; إذ ليس هناك متعاقدان تراضيا بشيء . وأما هنا فقد تراضيا بأن يكون المسمى بدلا عن العين أو المنفعة والناس يرضون لها ببدل آخر فكان اعتبار تراضيهما أولى من اعتبار رضا الناس .

                فإن قيل : هما إنما تراضيا بهذا البدل في ضمن صحة العقد ; ووجوب موجباته وذلك منتف هنا ؟ [ قيل : ] والناس إنما يجعلون هذا قيمة في ضمن عقد صحيح له موجباته فلما تعذر العقد هنا قدرنا وجود عقد يعرف به البدل الواجب فيه فتقدير عقدهما الذي عقداه أولى من تقدير ما لم يوجد بحال ولا رضيا به ولم يعقده غيرهما . فإذا كان لا بد من التقدير والتقريب فما كان أشبه بالواقع كان أولى بالتقدير وأقرب إلى الصواب .

                فتبين بهذا أن إيجاب مهر المثل في النكاح الفاسد إنما هو شبيه لها بمن يتزوج من أمثالها نكاحا صحيحا لازما فتحتاج فيه إلى شيئين : إلى تقدير مثلها وتقدير نكاح صحيح فيه مسمى . فقسناها على أمثالها وقسنا فاسدها على صحيح أولئك وهذا في غاية البعد وإذا أوجبنا المسمى في الفاسد قسنا فاسدها بصحيحها وهي إلى نفسها أقرب من غيرها إليها . ثم عقدهما الفاسد وعقدهما الصحيح أقرب من عقدهما الفاسد إلى عقد غيرهما الصحيح . وأما إذا كان وطئ بشبهة بلا نكاح فهنا يوجب مهر مثلها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية