الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                قلت له : إذا وصف الله نفسه بصفة أو وصفه بها رسوله أو وصفه بها المؤمنون - الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم - فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه وحقيقتها المفهومة منها : إلى باطن يخالف الظاهر ومجاز ينافي الحقيقة لا بد فيه من أربعة أشياء : - ( أحدها : أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي ; لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب أو خلاف الألسنة كلها ; فلا بد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له ; وإن لم يكن له أصل في اللغة .

                ( الثاني : أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة وفي معنى بطريق المجاز لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف . وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز . ( الثالث : أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل - الصارف - عن معارض ; وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع [ ص: 361 ] تركها ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح .

                ( الرابع : أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وأنه أراد مجازه سواء عينه أو لم يعينه لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم ; دون عمل الجوارح ; فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . ثم هذا " الرسول " الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما وأنصحهم للأمة وأبينهم للسنة فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهره إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره ; إما أن يكون عقليا ظاهرا مثل قوله : { وأوتيت من كل شيء } فإن كل أحد يعلم بعقله أن المراد أوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها وكذلك : { خالق كل شيء } يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم . أو سمعيا ظاهرا مثل الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر . ولا يجوز أن يحيلهم على دليل خفي لا يستنبطه إلا أفراد الناس سواء كان سمعيا أو عقليا ; لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مرات [ ص: 362 ] كثيرة ; وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد والفقيه وغير الفقيه وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه ثم أوجب أن لا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئا من ظاهره ; لأن هناك دليلا خفيا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان هذا تدليسا وتلبيسا وكان نقيض البيان وضد الهدى وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان .

                فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره أقوى بدرجات كثيرة من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة ؟ . فسلم لي ذلك الرجل هذه المقامات . قلت : ونحن نتكلم على صفة من الصفات ونجعل الكلام فيها أنموذجا يحتذى عليه ونعبر بصفة " اليد " وقد قال تعالى : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } وقال تعالى لإبليس : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } وقال تعالى : { تبارك الذي بيده الملك } وقال { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } وقال تعالى : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون } . [ ص: 363 ] وقد تواتر في السنة مجيء " اليد " في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

                . فالمفهوم من هذا الكلام : أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله ; وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى وأن [ { يداه مبسوطتان } ] ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة العطاء ; لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها ; وتركه يكون ضما لليد إلى العنق صار من الحقائق العرفية إذا قيل هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقة وكان ظاهره الجود والبخل كما قال تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } ويقولون : فلان جعد البنان وسبط البنان . قلت له : فالقائل ; إن زعم أنه ليس له يد من جنس أيدي المخلوقين : وأن يده ليست جارحة فهذا حق . وإن زعم أنه ليس له يد زائدة على الصفات السبع ; فهو مبطل . فيحتاج إلى تلك المقامات الأربعة .

                أما " الأول " فيقول : إن اليد تكون بمعنى النعمة والعطية تسمية للشيء باسم سببه كما يسمى المطر والنبات سماء ومنه قولهم : لفلان عنده أياد وقول أبي طالب لما فقد النبي صلى الله عليه وسلم

                يا رب رد راكبي محمدا رده علي واصطنع عندي يدا

                [ ص: 364 ] وقول عروة بن مسعود لأبي بكر يوم الحديبية : لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . وقد تكون اليد بمعنى القدرة تسمية للشيء باسم مسببه ; لأن القدرة هي تحرك اليد يقولون : فلان له يد في كذا وكذا ; ومنه قول " زياد " لمعاوية : إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي ويدي الأخرى فارغة يريد نصف قدرتي ضبط أمر العراق . ومنه قوله : { بيده عقدة النكاح } والنكاح كلام يقال وإنما معناه أنه مقتدر عليه . وقد يجعلون إضافة الفعل إليها إضافة الفعل إلى الشخص نفسه لأن غالب الأفعال لما كانت باليد جعل ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه قال الله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } - إلى قوله - { ذلك بما قدمت أيديكم } أي : بما قدمتم ; فإن بعض ما قدموه كلام تكلموا به . وكذلك قوله تعالى { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } - إلى قوله - { ذلك بما قدمت أيديكم } والعرب تقول : يداك أوكتا . وفوك نفخ : توبيخا لكل من جر على نفسه جريرة ; لأن أول ما قيل هذا لمن فعل بيديه وفمه .

                ( قلت له : ونحن لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن في هذا كله والمتأولون للصفات الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسمائه وآياته تأولوا قوله : { بل يداه مبسوطتان } وقوله : { لما خلقت بيدي } على هذا [ ص: 365 ] كله فقالوا : إن المراد نعمته أي : نعمة الدنيا ونعمة الآخرة وقالوا : بقدرته وقالوا : اللفظ كناية عن نفس الجود ; من غير أن يكون هناك يد حقيقة ; بل هذه اللفظة قد صارت حقيقة في العطاء والجود . وقوله : { لما خلقت بيدي } أي : خلقته أنا وإن لم يكن هناك يد حقيقية قلت له فهذه تأويلاتهم ؟ قال : نعم قلت له : فننظر فيما قدمنا : ( المقام الأول : أن لفظ " اليدين " بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة ; لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع كقوله : { إن الإنسان لفي خسر } ولفظ الجمع في الواحد كقوله : { الذين قال لهم الناس إن الناس } ولفظ الجمع في الاثنين كقوله : { صغت قلوبكما } أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد فلا أصل له ; لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها ولا يجوز أن يقال : عندي رجل ويعني رجلين ولا عندي رجلان ويعني به الجنس ; لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس والجنس يحصل بحصول الواحد .

                فقوله : { لما خلقت بيدي } لا يجوز أن يراد به القدرة ; لأن القدرة صفة واحدة ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد . ولا يجوز أن يراد به النعمة لأن نعم الله لا تحصى ; فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية . [ ص: 366 ] ولا يجوز أن يكون " لما خلقت أنا " لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفعل كقوله : { بما قدمت يداك } { بما قدمت أيديكم } ومنه قوله : { مما عملت أيدينا أنعاما } . أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل وعدى الفعل إلى اليد بحرف الباء كقوله : { لما خلقت بيدي } فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى : أن يقال فعلت هذا بيديك ويقال : هذا فعلته يداك لأن مجرد قوله : فعلت كاف في الإضافة إلى الفاعل فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة ولست تجد في كلام العرب ولا العجم - إن شاء الله تعالى - أن فصيحا يقول : فعلت هذا بيدي أو فلان فعل هذا بيديه إلا ويكون فعله بيديه حقيقة . ولا يجوز أن يكون لا يد له أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها . وبهذا الفرق المحقق تتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة ; ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز ألبتة من جهة نفس اللغة . قال لي : فقد أوقعوا الاثنين موقع الواحد في قوله : { ألقيا في جهنم } وإنما هو خطاب للواحد .

                قلت له : هذا ممنوع ; بل قوله : { ألقيا } قد قيل تثنية الفاعل لتثنية الفعل والمعنى ألق ألق . وقد قيل : إنه خطاب للسائق والشهيد . ومن قال : إنه خطاب للواحد قال : إن الإنسان يكون معه اثنان : أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله [ ص: 367 ] فيقول : خليلي خليلي ثم إنه يوقع هذا الخطاب وإن لم يكونا موجودين كأنه يخاطب موجودين ; فقوله : { ألقيا } عند هذا القائل إنما هو خطاب لاثنين يقدر وجودهما فلا حجة فيه ألبتة . قلت له : ( المقام الثاني : أن يقال : هب أنه يجوز أن يعني باليد حقيقة اليد وأن يعني بها القدرة أو النعمة أو يجعل ذكرها كناية عن الفعل ; لكن ما الموجب لصرفها عن الحقيقة ؟ . فإن قلت : لأن اليد هي الجارحة وذلك ممتنع على الله سبحانه . قلت لك : هذا ونحوه يوجب امتناع وصفه بأن له يدا من جنس أيدي المخلوقين وهذا لا ريب فيه ; لكن لم لا يجوز أن يكون له " يد " تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات ؟ قال : ليس في العقل والسمع ما يحيل هذا ; " قلت " فإذا كان هذا ممكنا وهو حقيقة اللفظ فلم يصرف عنه اللفظ إلى مجازه ؟ وكل ما يذكره الخصم من دليل يدل على امتناع وصفه بما يسمى به - وصحت الدلالة - سلم له أن المعنى الذي يستحقه المخلوق منتف عنه وإنما حقيقة اللفظ وظاهره " يد " يستحقها الخالق كالعلم والقدرة بل كالذات والوجود .

                ( المقام الثالث : قلت له : بلغك أن في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أئمة المسلمين : أنهم قالوا : المراد باليد خلاف ظاهره أو الظاهر غير مراد أو هل في كتاب الله آية تدل على انتفاء وصفه [ ص: 368 ] باليد دلالة ظاهرة ; بل أو دلالة خفية ؟ فإن أقصى ما يذكره المتكلف قوله : { قل هو الله أحد } وقوله : { ليس كمثله شيء } وقوله : { هل تعلم له سميا } وهؤلاء الآيات إنما يدللن على انتفاء التجسيم والتشبيه . أما انتفاء يد تليق بجلاله فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه . وكذلك هل في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري لا " يد " له ألبتة ؟ لا " يدا " تليق بجلاله ولا " يدا " تناسب المحدثات وهل فيه ما يدل على ذلك أصلا ; ولو بوجه خفي ؟ فإذا لم يكن في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد ألبتة ; وإن فرض ما ينافيها فإنما هو من الوجوه الخفية - عند من يدعيه - وإلا ففي الحقيقة إنما هو شبهة فاسدة .

                فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد وأن الله تعالى خلق بيده وأن [ { يداه مبسوطتان } ] وأن الملك بيده وفي الحديث ما لا يحصى ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر : لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره حتى ينشأ " جهم بن صفوان " بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم ويتبعه عليه " بشر بن غياث " ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق . وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى " الخراءة " ويقول : { ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من [ ص: 369 ] شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به } { تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم وأن اعتقاد ظاهره ضلال وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه وكيف يجوز للسلف أن يقولوا : أمروها كما جاءت مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار ؟ .

                ( المقام الرابع ) : قلت له : أنا أذكر لك من الأدلة الجلية القاطعة والظاهرة ما يبين لك أن لله " يدين " حقيقة . فمن ذلك تفضيله لآدم : يستوجب سجود الملائكة وامتناعهم عن التكبر عليه ; فلو كان المراد أنه خلقه بقدرته أو بنعمته أو مجرد إضافة خلقه إليه لشاركه في ذلك إبليس وجميع المخلوقات . قال لي : فقد يضاف الشيء إلى الله على سبيل التشريف كقوله : { ناقة الله } وبيت الله . قلت له : لا تكون الإضافة تشريفا حتى يكون في المضاف معنى أفرده به عن غيره فلو لم يكن في الناقة والبيت من الآيات البينات ما تمتاز به على جميع النوق والبيوت لما استحقا هذه الإضافة والأمر هنا كذلك فإضافة خلق [ ص: 370 ] آدم إليه أنه خلقه بيديه يوجب أن يكون خلقه بيديه أنه قد فعله بيديه وخلق هؤلاء بقوله : كن فيكون كما جاءت به الآثار . ومن ذلك أنهم إذا قالوا : بيده الملك أو عملته يداك فهما شيئان : ( أحدهما ) إثبات اليد و ( الثاني ) إضافة الملك والعمل إليها و ( الثاني ) يقع فيه التجوز كثيرا أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له " يد " حقيقة ولا يقولون : " يد " الهوى ولا " يد " الماء فهب أن قوله : بيده الملك قد علم منه أن المراد بقدرته لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة والفرق بين قوله تعالى { لما خلقت بيدي } وقوله : { مما عملت أيدينا } من وجهين :

                ( أحدهما ) : أنه هنا أضاف الفعل إليه وبين أنه خلقه بيديه وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي . ( الثاني ) : أن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس كقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } أي : يديهما وقوله : { فقد صغت قلوبكما } أي : قلباكما فكذلك قوله : { مما عملت أيدينا } . وأما السنة فكثيرة جدا مثل قوله صلى الله عليه وسلم { المقسطون عند [ ص: 371 ] الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا } رواه مسلم . وقوله صلى الله عليه وسلم { يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة } رواه مسلم في صحيحه ; والبخاري فيما أظن . وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم بيده خبزته في السفر }

                . وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يأخذ الرب عز وجل سمواته وأرضه بيديه - وجعل يقبض يديه ويبسطهما - ويقول : أنا الرحمن حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله ؟ } - { وفي رواية - أنه قرأ هذه الآية على المنبر : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } قال : يقول : أنا الله أنا الجبار } وذكره . وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ } وما يوافق هذا من حديث الحبر . وفي حديث صحيح { إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان : اختر [ ص: 372 ] أيهما شئت قال : اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته } وفي الصحيح { أن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق : إن رحمتي تغلب غضبي } . وفي الصحيح : { أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده ; وقد قال له موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه . }

                وفي حديث آخر أنه { قال سبحانه : وعزتي وجلالي ; لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان } وفي حديث آخر في السنن : { لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون } . فذكرت له " هذه الأحاديث " وغيرها ; ثم " قلت له " : هل تقبل هذه الأحاديث تأويلا ; أم هي نصوص قاطعة ؟ وهذه أحاديث تلقتها الأمة بالقبول والتصديق ونقلتها من بحر غزير . فأظهر الرجل التوبة وتبين له الحق . فهذا الذي أشرت إليه - أحسن الله إليك - أن أكتبه . وهذا " باب واسع " { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } و { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى المحمدين وأبي زكريا [ ص: 373 ] وأبي البقاء عبد المجيد وأهل البيت ومن تعرفونه من أهل المدينة وسائر أهل البلدة الطيبة . وإن كنتم تعرفون للمدينة كتابا يتضمن أخبارها ; كما صنف أخبار مكة . فلعل تعرفونا به . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية