الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 337 ] ( فصل ) وكلا الطائفتين : الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو والقرب منه من غير اعتبار بالأمر والنهي المنزلين من عند الله الذين ينتهون إلى الفناء في توحيد الربوبية يقولون بالجمع والاصطلام في توحيد الربوبية ولا يصلون إلى الفرق الثاني .

                ويقولون ; إن صاحب الفناء لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ويجعلون هذا غاية السلوك . والذين يفرقون بين ما يستحسنونه ويستقبحونه ويحبونه ويكرهونه ويأمرون به وينهون عنه لكن بإرادتهم ومحبتهم وهواهم ; لا بالكتاب المنزل من عند الله كلا الطائفتين متبع لهواه بغير هدى من الله وكلا الطائفتين لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي أن لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله ، ولا يوالي إلا لله ، ولا يعادي إلا لله وأن يحب ما يحبه الله ويبغض ما أبغضه ويأمر بما أمر الله به ، وينهى عما نهى الله عنه وأنك لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا الله ولا تسأل إلا الله وهذا ملة إبراهيم وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين . [ ص: 338 ]

                والفناء في هذا هو " الفناء " المأمور به الذي جاءت به الرسل وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه ; وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه فيكون مع الحق بلا خلق كما قال الشيخ عبد القادر : كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس . وتحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله يوجب أن يكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله . ودين الله ما أمر به فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته فقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وضمن لمن اتبعه أن الله يحبه بقوله : { يحببكم الله }

                . وصاحب هذه المتابعة لا يبقى مريدا إلا ما أحبه الله ورسوله ولا كارها إلا لما كرهه الله ورسوله وهذا هو الذي يحبه الحق كما قال : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ; ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه . وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } . [ ص: 339 ]

                فهذا محبوب الحق ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله ويبغض معصية الله ورسوله فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله ليس فيها كفر ولا فسوق والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق فإن الجزاء من جنس العمل فلما لم يزل متقربا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق .

                فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي . وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا لم تبق عنده الأمور " نوعان " : محبوب للحق ومكروه ; بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق كما أنه مراد ; فإن هؤلاء أصل قولهم : هو قول جهم بن صفوان من القدرية فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب " منازل السائرين " و " ذم الكلام " و " الفاروق " و " تكفير الجهمية " وغير ذلك فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية وهو قول الأشعري وأتباعه وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية . [ ص: 340 ]

                فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة وهم مصيبون في ذلك وخالفوا " القدرية " من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم بن صفوان وأتباعه فزعموا : أن الأمور كلها لم تصدر إلا عن إرادة تخصيص أحد المتماثلين بلا سبب . وقالوا : الإرادة والمحبة والرضا سواء ; فوافقوا في ذلك القدرية ; فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول : إن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح ; وكلاهما يقول : لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا .

                ثم قالت " القدرية " وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ; ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ; ويكره الكفر والفسوق والعصيان . قالوا : فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعا بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره وخلاف محبته ورضاه وقالوا : إن محبته ورضاه لأعمال عباده هو بمعنى أمره بها ; فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها فلا يكون قط عندهم مريدا لغير ما أمره به ; وأخذ هؤلاء يتأولون ما في القرآن من إرادته لكل ما يحدث ومن خلقه لأفعال العباد بتأويلات محرفة .

                وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشعرية وأمثالهم : قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ; ولا يكون خالقا إلا بقدرته ومشيئته ; فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود فهو [ ص: 341 ] بمشيئته وقدرته وهو خالقه ; سواء في ذلك أفعال العباد وغيرها ; ثم قالوا : وإذا كان مريدا لكل حادث والإرادة هي المحبة والرضا ; فهو محب راض لكل حادث ; وقالوا : كل ما في الوجود من كفر وفسوق وعصيان فإن الله راض به محب له ; كما هو مريد له .

                فقيل لهم : فقد قال تعالى : { لا يحب الفساد } { ولا يرضى لعباده الكفر } . فقالوا : هذا بمنزلة أن يقال : لا يريد الفساد ; ولا يريد لعباده الكفر ; وهذا يصح على وجهين : إما أن يكون خاصا بمن لم يقع منه الكفر والفساد ; ولا ريب أن الله لا يريد ولا يحب ما لم يقع عندهم ; فقالوا : معناه لا يحب الفساد لعباده المؤمنين ; ولا يرضاه لهم . وحقيقة قولهم : أن الله أيضا لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار .

                فالمحبة والرضا عندهم كالإرادة عندهم متعلقة بما وقع دون ما لم يقع ; سواء كان مأمورا به أو منهيا عنه ; وسواء كان من أسباب سعادة العباد أو شقاوتهم ; وعندهم أن الله يحب ما وجد من الكفر والفسوق والعصيان ; ولا يحب ما لم يوجد من الإيمان والطاعة ; كما أراد هذا دون هذا .

                و ( الوجه الثاني ) : قالوا : لا يحب الفساد دينا ; ولا يرضاه دينا ; وحقيقة هذا القول أنه لا يريده دينا ; فإنه إذا أراد وقوع الشيء على صفة لم يكن مريدا له على خلاف تلك الصفة ; وهو إذا أراد وقوع شيء مع شيء [ ص: 342 ] لم يرد وقوعه وحده فإنه إذا أراد أن يخلق زيدا من عمرو لم يرد أن يخلقه من غيره ; وإذا أراد أن ينزل مطرا فتنبت الأرض به ; فإنه أراد إنزاله على تلك الصفة ; وإذا أراد أن يركب البحر قوم فيغرق بعضهم ; ويسلم بعضهم ; ويربح بعضهم ; فإنما أراده على تلك الصفة ; فكذلك الإيمان والكفر ; قرن بالإيمان نعيم أصحابه ; وبالكفر عذاب أصحابه وإن لم يكن عندهم جعل شيء لشيء سببا ولا خلق شيء لحكمة ; لكن جعل هذا مع هذا .

                وعندهم جعل السعادة مع الإيمان لا به كما يقولون : إنه خلق الشبع عند الأكل لا به ; فالدين الذي أمر به هو ما قرن به سعادة صاحبه في الآخرة والكفر والفسوق والعصيان عندهم أحبه ورضيه كما أراده ; لكن لم يحبه مع سعادة صاحبه ; فلم يحبه دينا كما أنه لم يرده مع سعادة صاحبه دينا . وهذا المشهد الذي شهده أهل الفناء في توحيد الربوبية فإنهم رأوا الرب تعالى خلق كل شيء بإرادته وعلم أن سيكون ما أراد . ولا سبب عندهم لشيء ولا حكمة ; بل كل الحوادث تحدث بالإرادة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية