الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 359 ] الحسد في الدين

                                                          ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

                                                          * * *

                                                          كان المشركون والذين أوتوا الكتاب لا يرضون معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة دالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تحداهم أن يأتوا بمثلها فعجزوا وعلموا مقامه من البيان ، وأنه أعلى من البيان الإنساني حتى يقول قائلهم : ( إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، والله ما يقول هذا بشر ) . فقد تبين لهم الحق ، وأن ما يشتمل عليه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل ، ومع ذلك جحدوا وكفروا وتمادوا واضطهدوا ضعاف المؤمنين ، وكانوا يودون أن يعود النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه إلى ما هم عليه ، حسدا لهم ، إذا علموا أنهم على الحق ، وليكونوا تحت سلطانهم وليحتفظوا بهم وكانوا بين إحساسين : إحساس السلطان وحسد أهل الإيمان ، ولذا كانوا يتعنتون في طلب آيات غير القرآن .

                                                          [ ص: 360 ] واليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فالحق قد تبين وكان أشد تبينا ، لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ومع ذلك طلبوا آيات أخرى وجحدوا ، وما كان ذلك إلا تبريرا لكفرهم بما علموا ، ولم يكتفوا بكفرهم بل ودوا أن يكون المؤمنون مثلهم كفرا وعنادا .

                                                          ولذا قال تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ود هنا معناها تمنى ، فإنها تستعمل بمعنى أحب ، وبمعنى تمنى ، وحيث كانت لو وما بعدها موضع الطلب كانت بمعنى تمنى ; فإن أمنية أهل الكتاب وكذلك المشركون أن يختفي هذا الدين ، ولا يكون إلا الوثنية وخصوصا الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج لكيلا يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه مسيطرين على المدينة .

                                                          ويلاحظ أمران :

                                                          أولهما - أن القرآن الكريم الذي أنزله العادل الحكيم لم يذكر أهل الكتاب جميعا ، بل ذكر الكثير منهم فقال تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لأن بعضهم يرجى إيمانه ويسير في طريق الإيمان ، ومن سار في طريق الإيمان لا يرجو زواله ، ومن يريد الهداية لا يود زوالها .

                                                          الأمر الثاني - أنه ذكر أهل الكتاب دون غيرهم لأنهم كانوا أشد رغبة في تضليل المؤمنين ، وكان الحق عندهم أشد بيانا ، وأقوى برهانا ; ولأن حسدهم أوضح ، فكلما كانت الحجة أقطع ، كان حسدهم أوضح وأبين وعداوتهم أشد ، ولجاجتهم في الباطل .

                                                          ويقول سبحانه في موضع التمني وباعثه : لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم تمنوا أن تعودوا إلى الكفر ، بعد أن ذقتم بشاشة الإيمان ، وعبر بقوله تعالى : يردونكم من بعد إيمانكم كفارا للإشارة إلى أن ذلك رجعة بعد تقدم ، وانتكاسة بعد استقامة .

                                                          [ ص: 361 ] وما كان الباعث على ذلك الحسد؟ وعبر عن حسدهم بأنه منبعث من نفوسهم ، وذلك التعبير يشير إلى أمرين :

                                                          أولهما - أنه ليس له مبرر إلا من نفوسهم فلا وجه لأن يحسدوكم على ما آتاكم الله تعالى من فضله .

                                                          ثانيهما - تأكيد ما في نفوسهم من غل بقوله تعالى : من عند أنفسهم كما في قوله تعالى : يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله

                                                          والحسد تمني زوال نعمة غيره ، سواء أعادت النعمة إليه أم لم تعد . فالحاسد لا يريد الخير لغيره ، وهو بهذا يملأ قلبه بالضغن والحقد من غير أن يعود إليه شيء ; ولذلك قيل إن الحسد مرض نفسي ، لا يؤذي إلا صاحبه لأنه بمقدار ما ينال غيره من خير تتوالى آلامه ، وخير الدنيا كثير فيزيد مرضه بمقدار ما يؤتى الناس من فضل ، وقد يسمي بعض الناس حسدا ما ينال الناس من غبطة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله تعالى القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " .

                                                          واستعمال الحسد هنا من قبيل المجاز ; لأن موضوع الغبطة والحسد ، هو الخير بيد أن الحاسد يتمنى الزوال والغابط يتمنى الدوام والإتباع ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

                                                          وإن حسد اليهود كان باديا في كل معاملاتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي أقوالهم وأفعالهم ، وحسد بعض الذين بقوا على وثنيتهم كان باديا في نفاقهم وفي أفعالهم ، وكانوا يجاهرون بالحسد قبل وقوعه إذ كانوا يجاهرون به ، ولا يخفون كفرهم .

                                                          يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان راكبا دابة فمر بمجلس فيه مسلمون ، ويهود ومشركون من عبدة الأوثان من بقايا الأوس والخزرج الذين لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام [ ص: 362 ] بعد ، ولو نفاقا ، فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نزل عن دابته وأخذ يدعوهم إلى الإسلام ، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي : إن كان حقا ، فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك . فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله فاغش مجالسنا فإنا نحب ذلك ، فاستب المشركون والمسلمون واليهود ، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألم تسمع إلى ما قاله أبو حباب " يريد عبد الله بن أبي بن سلول فكناه تقريبا لنفسه " قال كذا وكذا " فقال : أي رسول الله بأبي أنت وأمي ! اعف عنه وأصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق ، فذلك فعل ما رأيت .

                                                          والحسد هنا واضح .

                                                          ولقد قال تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره والعفو معناه ، ترك المؤاخذة على الذنب والرفق في المظهر ، والمعاملة الحسنة ، والصفح هو إزالة كل أثر في النفس ، فالعفو يتعلق بالمظهر كقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين والصفح ألا يبقى في النفس أثر من الآلام التي أثارها الحسد والعمل على مقتضاه ، وكلاهما أعلى درجة من الصبر المجرد ; لأن الصبر معناه الضبط والتحمل مع ملاحظة ورجاء ، والعفو يتضمن كالصفح معنى الصبر ، مع تجمل المظهر وألا تكون آلام قط مما يصنعون .

                                                          وقد حد الله تعالى نهاية للعفو والصفح ، وهو أن يأتي أمر الله قال تعالى : حتى يأتي الله بأمره وإن ذلك يكون بأحد أمور ثلاثة : إما بالقصاص منهم ، بإجلائهم أو قتالهم ، وإما بنزع الحسد والحقد من قلوبهم وهدايتهم ، وإما بالغلب عليهم وأن يكونوا في ظل المسلمين ، ويعلنوا إسلامهم وقلوبهم ليست مؤمنة وإن الأمر بالصفح والعفو كان لإرضاء قلوبهم ، وإخراج الحسد من نفوسهم فإنه لا يدني القلوب إلا عفو رفيق وصفح جميل .

                                                          [ ص: 363 ] ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات قدرة الله تعالى فقال تعالى : إن الله على كل شيء قدير فإذا أمر الله كان قادرا على نزع الأحقاد من القلوب ، والقصاص من الظالمين ، وكشف ضلال المنافقين ; لأنه قادر على كل شيء وقد أكد قدرته سبحانه بالجملة الاسمية وإن المؤكدة ، وعموم موضوع قدرته واختصاصه سبحانه وتعالى بالقدرة على كل شيء بتقديم الجار والمجرور على قدير . تعالت قدرته وعظمته وحكمته .

                                                          وإن العفو والصفح صفحا جميلا لا منة فيه ، يحتاج إلى رياضة نفسية وطهارة روحية وإلف اجتماعي ، ولذلك قرن الله تعالى الأمر بالمعروف والصفح والأمر بالصلاة والزكاة وتقديم الخير رجاء من عند الله قال الله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة

                                                          إقامة الصلاة أداؤها على الوجه الأكمل بأن يأتي بأركانها الظاهرة ، وأركانها الباطنة مقومة غير معوجة طيبة خارجة من القلوب ليست النفس منفصلة عما تقوم به الجوارح ، فإذا قال : " الله أكبر " شعر بعظمة الله وأحس برقابته ، وأنه دخل بالتكبير في ظل رحمته ، وأنه رقيب عليه وأنه يواجهه ، وأنه في حضرة منشئ هذا الوجود بما فيه من سماء وأرض وجبال ووهاد ، وأن نفسه في قبضة يده ، والوجود كله في قبضته ، وإنه بذلك يحس كأنه يرى الله لأنه في حضرته ، وبذلك يعلو عن الأحقاد وعن الحسد ، وعن كل ضغن وإحن ، ولذا قال تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

                                                          والزكاة تعاون إنساني ، لأنها معاونة القوي للضعيف وإعطاء الغني للفقير ، والربط بين الإنسان بالأخوة الجامعة والمحبة الراحمة والمودة الواصلة ، وعندها يزول الحسد ولا يتمنى أحد زوال نعمة أحد ، وعند ذلك يكون العفو الشامل والصفح الجميل ، ويدرك معنى قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل ، ويراه بقلبه عيانا . وإن الأمر بالصلاة التي هي رمز للطهارة النفسية والائتلاف النفسي ، وإيتاء الزكاة التي تدل على الطهارة الجماعية والائتلاف - أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير [ ص: 364 ] في شتى صوره ، وقال تعالى وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله و " ما " هنا من أسماء الشرط ، وفعله تقدموا ، وجوابه تجدوه عند الله ، والنص الكريم حث على فعل الخير وبيان جزائه ; لأن جزاءه يجده عند الله تعالى وما يجده عند الله أوفى مما قدم ، وأكثر مما فعل ، وقال تعالى : وما تقدموا لأنفسكم من خير ونلاحظ ثلاثة أمور في كل واحدة إشارة بيانية ، وحكمة ربانية .

                                                          الإشارة الأولى - أن الله تعالى عبر عن فعل الخير سواء أكان لنفسه أم كان للجماعة بقوله : وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله لأن فعل الخير للجماعة فعل لنفسه ، والخير يعود على فاعله ابتداء ، ويعود على الجماعة انتهاء ، فمن تصدق فإنما يتصدق لنفسه ; لأن الفائدة إليه إذ يعيش في مجتمع متكافل غير متدابر ، ولتطيب بفعله القلوب وتسود المحبة الكامنة ، وكذلك كل فعل خير يكون لنفسه ، وهو يقدمه لنفسه أو يكون له ثوابه .

                                                          الإشارة الثانية - أنه يجد العمل قائما ثابتا عند الله ، فيكون مهيأ حاضرا يراه ويعاينه ، وذلك كناية عن جزائه الذي لا ينقص عنه ، بل قد يزيد عليه رحمة من الله تعالى ، ويراه عند الله محفوظا لا يضيع .

                                                          الإشارة الثالثة - تذييل الآية الكريمة بما يفيد علم الله تعالى بقوله تعالت كلماته : إن الله بما تعملون بصير وهذه الجملة السامية تفيد علم الله الذي لا تخفى عليه خافية ، فلا يضيع عمل عامل منكم ، وقد أكد سبحانه وتعالى إحاطة علمه بما يظهر وما يخفى مؤكدات ثلاث :

                                                          أولها - إحاطته وسموا ذلك بالتعبير بـ " ما " الدالة على العموم ، فإنها بمعنى الذي ، وهي تدل على العموم الشامل .

                                                          ثانيها - بالجملة الاسمية وتأكيد الجملة بأن وتقديم الجار والمجرور على بصير ، والتقديم دال على التخصيص .

                                                          وثالثها - التعبير عن العلم بالبصير ; فمعناه علم كأنه مبصور بالبصر ، يعلم [ ص: 365 ] الخفي الدقيق ، والجلي الواضح ، فلا يخفى عليه شيء من عمل الإنسان ويعلمه علم من يبصره .

                                                          ذكر سبحانه وتعالى حسد اليهود بالمدينة ، وكيف يداوي المؤمنون داء الحسد عند هؤلاء وهو بالعفو والصفح رجاء أن يقربوا بدل أن يستمروا على جفوتهم ونفرتهم ، حتى يكون اليأس من إدنائهم فيكون القصاص أو الكشف والإبعاد ، والله تعالى على كل شيء قدير .

                                                          ولقد بين سبحانه سبب حسدهم وهو غرورهم بأنهم أهل الجنة وحدهم فقال تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم

                                                          الضمير يعود على أهل الكتاب في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم والضمير في قوله تعالى : وقالوا يتعين عودته على أهل الكتاب للقول نفسه ; لأن الذين قالوا هذا القول اليهود ، والنصارى وهم أهل الكتاب وهم الذين كانوا يجاورون النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                          والقول بالترتيب الجماعي فاليهود قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا والنصارى قالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، وإلا فكل فريق لا يؤمن بالآخر فاليهود لا يعترفون بالنصرانية وهم الذين عادوا المسيح ، وحرضوا على قتله وإن كان الله تعالى قد نجاه من دسهم وشبه عليهم ، وقد دل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك : وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء

                                                          وهود قيل إنها هنا بمعنى يهود ، ولكنها بمعنى الجمع ; لأن " من " هنا لفظ يدل على الجمع فالجمع أنسب إليه ويكون جمعا لها كعوذ جمع لعائذ ، ولأنه مقابل لنصارى ونصارى جمع ، وإن قولهم هذا كذب نشأ من غرورهم وإغلاق قلوبهم على ما عندهم ، وما يتمنونه من أماني كاذبة إذ يتمنون ولا يعملون " ولذلك قال تعالى في تصوير حالهم : تلك أمانيهم وهي جمع أمنية وهي على وزن أفعولة فأصلها أمنوية اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ، وقد [ ص: 366 ] ذكرنا ذلك من قبل ، أي أن " هذا ما يتمنونه ، ولكن لماذا قال تلك أمانيهم ولم يقل تلك أمنيتهم فذكر ذلك بلفظ الجمع " قالوا " ؟ : إذ الجمع يدل على أنه أمنية كل واحد نعينه فجمعت للدلالة على عموم التمني ، وذلك لأنهم يحكمون لأنفسهم بأمانيهم لا بأعمالهم بما يتمنونه لا بما يتخذون لنيله الأسباب .

                                                          ولأن لفظ الجمع تأكيد لأن يكون هذا تمنيا لهم استجابة لغرورهم وأهوائهم ، وقد قال تعالى لبيان أنها أمان كاذبة ليس لها من سبب ولا دليل قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أقر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : هاتوا برهانكم ، ولم يقل سبحانه سنكل طلب البرهان إلينا ، لأنه عالم الغيب والشهادة ، يعلم كذب ما يقولون وافتراءهم ، وقد حكم سبحانه وتعالى بأنه ما يتمنونه لا ما يستحقون فلا يطلب الدليل من يعلم ; وقد فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب لا ليقتنع ولكن ليبين كذبهم في ادعائهم .

                                                          طلب منهم أن يأتوا ببرهان ، والبرهان هو الدليل القاطع الملزم الذي لا يعتريه ريب ولا شك أنه ليس عندهم دليل ظني أو قطعي من كتاب منزل أو قول نبي مرسل .

                                                          ولذلك قال سبحانه : إن كنتم صادقين فجعل أداة التعليق الدالة على الشك ، وهي " إن " ، إذ إنه لا دليل عندهم فهم غير صادقين .

                                                          ثم بين سبحانه وتعالى أن دخول الجنة بالإخلاص والعمل لا بالتمني الكاذب فقال تعالى : بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون بلى حرف للجواب بالنفي كما أن نعم للجواب بالإيجاب ، وبلى تتضمن معنى الإضراب وهذا الكلام رد على المفترين الذين يتمنون الأماني الكاذبة فليست الجنة إلا جزاء المتقين ولا تكون للكذابين الجاحدين .

                                                          من أسلم وجهه لله وهو محسن ومعنى أسلم وجهه لله تعالى أسلم نفسه كلها لله تعالى ، فتكون كل جوارحه وكل أحاسيسه وحركات قلبه خالصة لله تعالى خائفة منه خاضعة لكل ما يأمر وينهى ، وعبر بالوجه فإنه كثير ما يعبر به عن الذات [ ص: 367 ] كما قال تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه ولأنه مظهر النفس ، ولأنه هو الذي تكون به المواجهة وهو الذي يكون به السجود ومظاهر الطاعة والخضوع والاستجابة .

                                                          ولا يكون إسلام النفس إلا وهو معه الإحسان في الأعمال كلها ، فمعنى وهو محسن أنه يكون محسنا للناس في معاملتهم فيمدهم بالعون عند موجبه يعين الضعيف ويغيث الملهوف ، ويحمل الكل ، فلا يحسد الناس على ما آتاهم من خير ولا يكذب ولا يحقد ولا يمشي بنميم بين الناس ولا يتخذ السعاية سبيله ، ولا يقطع ما وصل الله ، ولا يفرق بين الأحبة ، هذا كله يشمله معنى الإحسان وهو لا يحصى في خصائصه ومزاياه وجملة وهو محسن حالية ومعناها أنه متلبس بالإحسان لا يصدر عنه غيره .

                                                          و ( من ) من أسماء الشرط و أسلم وجهه لله وهو محسن شرطه ، وجزاؤه قوله تعالى : فله أجره ثواب ذلك الإحسان وإسلام الوجه لله تعالى ، أما الادعاء المغرور ، والتمني الكاذب فجزاؤه جهنم وبئس المصير ، وإنه لا خوف عليهم من عقاب ، ولا حزن يعتريهم من عمل أسلفوه .

                                                          ولذا قال تعالى : ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أي أنهم لا يخافون حسابا ولا عقابا ولا يحزنون لأمر نالهم ، بل إن إخلاصهم لله ، وإحسانهم العمل لا يجعل للعقاب سبيلا لهم ، فهم في أمن من الله لأنهم أطاعوه ، أما غيرهم فهم في غيهم وغرورهم يوم القيامة يخافون مما يستقبلهم ويحزنون على ما فاتهم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية