الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( باب النفقة ) .

                                                                                        هي في اللغة ما ينفق الإنسان على عياله ونحو ذلك قال تعالى { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم } ، ويقال أنفق الرجل من النفقة قال تعالى { لينفق ذو سعة من سعته } وأنفق القوم إذا أنفقت سوقهم وأنفق الرجل إذا ذهب ماله ، ويقال منه قوله تعالى { إذن لأمسكتم خشية الإنفاق } أي خشية الفقر ، ويقال نفقت السلعة نفاقا نقيض كسدت ونفقت الدابة نفوقا إذا ماتت كذا في ضياء الحلوم ، وبه علم أن النفقة المرادة هنا ليست مشتقة من النفوق بمعنى الهلاك ولا من النفق ولا من النفاق ، بل هي اسم للشيء الذي ينفقه الرجل على عياله ، وأما في الشريعة فذكر في الخلاصة ، قال هشام سألت محمدا عن النفقة ، قال النفقة هي الطعام والكسوة والسكنى ا هـ .

                                                                                        قالوا ونفقة الغير تجب على الغير بأسباب ثلاثة بالزوجية والقرابة والملك فبدأ بالأول لمناسبة ما تقدم من النكاح والطلاق والعدة .

                                                                                        ( قوله تجب النفقة للزوجة على زوجها والكسوة بقدر حالهما ) أي الطعام والشراب بقرينة عطف الكسوة والسكنى عليها والأصل في ذلك قوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته } وقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع { ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وعليه إجماع الأمة ; ولأن النفقة جزاء الاحتباس فكل من كان محبوسا بحق مقصود لغيره كانت نفقته عليه أصله القاضي والعامل في الصدقات والمفتي والوالي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة ، والمقاتلة إذا أقاموا لدفع عدو المسلمين واعترض بأن الرهن محبوس لحق المرتهن وهو الاستيفاء ; ولذا كان أحق به من سائر الغرماء مع أن نفقته على الراهن وأجيب بأنه محبوس بحق الراهن أيضا وهو وفاء دينه عنه عند الهلاك مع كونه ملكا له أطلق في الزوجة فشمل المسلمة والكافرة الغنية والفقيرة وأطلق في الزوج فشمل الغني والفقير والصغير والكبير بشرط أن يكون للصغير مال وإلا فلا شيء على أبيه لها كما قدمناه في مهرها ، ولم يذكر المصنف طريق إيصال النفقة إليها وهو نوعان : تمكين ، وتمليك فالتمكين متعين فيما إذا كان له طعام كثير وهو صاحب مائدة فتمكين المرأة من تناول مقدار كفايتها ، فليس لها أن تطالبه بفرض النفقة وإن لم يكن بهذه الصفة فإن رضيت أن تأكل معه فبها ونعمت وإن [ ص: 189 ] خاصمته في فرض النفقة يفرض لها بالمعروف وهو التمليك كذا في غاية البيان وظاهر ما في الذخيرة أن المراد بصاحب الطعام الكثير أن ينفق على من لا تجب عليه نفقته فحينئذ هي متعنتة في طلب الفرض ; لأنه إذا كان ينفق على من لا تجب عليه نفقته فلا يمتنع من الإنفاق على من عليه نفقته إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضربها ولا ينفق عليها فحينئذ يفرض لها النفقة ا هـ .

                                                                                        وظاهر ما في غاية البيان أن النفقة المفروضة تصير ملكا للمرأة إذا دفعها إليها فلها التصرف فيها من بيع وهبة وصدقة وادخار ويدل على ذلك ما في الخلاصة لو سرقت الكسوة أو هلكت النفقة لا يفرض لها أخرى بخلاف المحارم ، ولو فرض لها دراهم وبقي منها شيء يفرض بخلاف المحارم ا هـ .

                                                                                        وفي الذخيرة لو فرض لها القاضي عشرة دراهم نفقة شهر فمضى الشهر ، وقد بقي من العشرة شيء يفرض لها القاضي عشرة أخرى وفرق بين النفقة وبين الكسوة كما سنبينه في الكسوة ويدل عليه أيضا ما فيها أنهما لو اصطلحا بعد فرض النفقة على شيء لا يصلح تقديرا للنفقة كان معاوضة كالعبد فلولا أنها ملكت النفقة المفروضة لما كان معاوضة ، وفي القنية قال لها خذي هذه الدنانير الخمسة لنفقتك ولم يعين الوقت فهو تمليك لا إباحة ا هـ .

                                                                                        فيفيد أنها تملك النفقة بفرض القاضي أو بدفع شيء بالرضا لكن في الخلاصة والذخيرة إذا فرض القاضي النفقة فالزوج هو الذي يلي الإنفاق إلا إذا ظهر عند القاضي مطله فحينئذ يفرض النفقة ويأمره ليعطيها لتنفق على نفسها نظرا لها فإن لم يعط حبسه ولا تسقط عنه النفقة ا هـ .

                                                                                        فهي وإن ملكتها بالفرض لم تتصرف فيها بالإنفاق وتفرع على هذا ما لو قرر لها كل يوم مثلا قدرا معينا من النفقة فأمرته بإنفاق البعض وأرادت أن تمسك الباقي فمقتضى التمليك أن لها ذلك كما تقدم التصريح به عن الخلاصة والذخيرة في نفقة الشهر ولا فرق بين نفقة شهر أو يوم ، فليس فائدة أنه يلي الإنفاق مع فرض القاضي إلا لكونه قواما عليها لا لأنه يأخذ ما فضل وعلى هذا لو أمرته امرأته بشراء طعام واشترى لها فأكلت وفضل شيء واستغنت عنه في يومها ، فليس له أكله والتصرف فيه إليها كما هو مقتضى التمليك ويدل عليه أيضا أنها لو أسرفت في نفقة الشهر فأكلتها قبل مضيه واحتاجت لا يفرض لها أخرى كما لو هلكت كما في الذخيرة ، فالحاصل أن المفروضة أو المدفوعة إليها ملك لها فلها الإطعام منها والتصدق وفي الخانية المرأة إذا فرضت لها النفقة فأكلت من مال نفسها أو من مسألة الناس كان لها أن ترجع بالمفروض على زوجها ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع وإذا طلبت المرأة من القاضي فرض النفقة قبل النقلة وهي بحيث لا تمتنع من التسليم لو طالبها بالتسليم أو كان امتناعها لحق فرض القاضي لها إعانة لها على الوصول إلى حقها الواجب وإن كان بعدما حولها إلى منزله فزعمت عدم الإنفاق أو التضييق فلا ينبغي له أن يعجل بالفرض ، ولكن يأمره بالنفقة والتوسيع إلى أن يظهر ظلمه فحينئذ يفرض عليه النفقة ويأمره أن يدفعها إليها لتنفق على نفسها ، ولو طلبت كفيلا بها خوفا من غيبته لا يجبره القاضي على إعطاء الكفيل عند أبي حنيفة واستحسن أبو يوسف أخذ كفيل بنفقة شهر ويشترط لوجوب الفرض على القاضي وجوازه منه شرطان ، أحدهما طلب المرأة ، والثاني حضرة الزوج حتى لو كان الزوج غائبا فطلبت المرأة من القاضي فرض نفقة عليه لم يفرض وإن كان عالما بالزوجية عند أبي حنيفة في قوله الأخير ; لأن الفرض من القاضي قضاء ، وقد صح من أصلنا أن القضاء على الغائب لا يجوز من غير خصم .

                                                                                        ، وقوله عليه السلام لامرأة أبي سفيان إنما كان على سبيل الفتوى [ ص: 190 ] لا على طريق القضاء بدليل أنه لم يقدر لها ما تأخذه وفرض النفقة من القاضي تقديرها فإذا لم تقدر لم تكن فرضا فلم تكن قضاء وسيأتي تمامه فيما إذا غاب وله مال عند مودعه ، وفي الولوالجية الفتوى على قول أبي يوسف في أخذ الكفيل بنفقة شهر ولم يذكر المصنف تقديرا للنفقة لما في الذخيرة وغيرها من أنه ليس في النفقة عندنا تقدير لازم ; لأن المقصود من النفقة الكفاية وذلك مما يختلف فيه طباع الناس وأحوالهم ويختلف باختلاف الأوقات أيضا ففي التقدير بمقدار إضرار بأحدهما والذي قال في الكتاب إن كان الزوج معسرا فرض القاضي لها النفقة أربعة دراهم فهذا ليس بتقدير لازم ، بل إنما قدره محمد لما شاهد في زمانه فالذي يحق على القاضي في زماننا اعتبار الكفاية بالمعروف وأصله حديث هند حيث اعتبر الكفاية وفي البدائع ، وإذا كان وجوبها على الكفاية فيجب على الزوج ما يكفيها من الطعام والإدام والدهن ; لأن الخبز لا يؤكل عادة إلا مأدوما ، وأما الدهن فلا بد منه للنساء وفي الذخيرة قالوا واللحم ليس من الإدام خصوصا على أصل أبي حنيفة في اليمين ، فينظر إن كانت المرأة مفرطة اليسار تأكل الحلواء وما أشبه ذلك والزوج كذلك يفرض عليه مثل ذلك وإن كان من أوساط الناس فعلى ما يأتدمون به في عاداتهم يفرض على الزوج ا هـ .

                                                                                        وفي الأقضية يفرض الإدام أيضا أعلاه اللحم وأدناه الزيت وأوسطه اللبن ، وقيل في الفقيرة لا يفرض الإدام إلا إذا كان خبز شعير وفي فتح القدير والحق الرجوع في ذلك إلى عرفهم ا هـ .

                                                                                        وفي المجتبى والنفقة هي الخبز واللحم ودهن الرأس ودهن السراج وثمن الماء ، ولون من الفاكهة وعلى المعسر من الطعام خبز الشعير إذا كان ذلك طعام فقرائهم وعشرة أساتير من اللحم وخمسة أساتير من الشحم والألية ولا شيء لها من الفاكهة ا هـ .

                                                                                        فصار الحاصل أنه ينبغي للقاضي إذا أراد فرض النفقة أن ينظر في سعر البلد وينظر ما يكفيها بحسب عرف تلك البلدة ويقوم الأصناف بالدراهم ، ثم يقدر بالدرهم كما في المحيط إما باعتبار حاله أو باعتبار حالهما ، واختار المصنف الثاني وهو قول الخصاف وفي الهداية وعليه الفتوى ، وفي الولوالجية وهو الصحيح وعليه الفتوى وظاهر الرواية اعتبار حاله فقط وهو قول الكرخي وبه قال جمع كثير من المشايخ ونص عليه محمد ، وقال في التحفة والبدائع إنه الصحيح نظرا إلى قوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها } ، واستدل في الهداية لاعتبار حالهما بحديث هند فإنه اعتبر حالهما ، وأما النص فنقول بموجبه أنه مخاطب بقدر وسعه والباقي دين في ذمته ، وحاصله أنه عمل بالآية والحديث

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( باب النفقة ) .

                                                                                        ( قوله بالزوجية والقرابة والملك ) مخالف لما في البدائع حيث قال : وأما أسباب وجوب هذه النفقة أي نفقة الزوجية ، فقال أصحابنا بسبب وجوبها استحقاق الحبس الثابت بالنكاح للزوج عليها ، وقال الشافعي السبب الزوجية وهي كونها زوجة له ويبتنى على هذا الأصل أنه لا نفقة على مسلم في نكاح فاسد لانعدام سبب الوجوب وهو حق الحبس الثابت للزوج عليها بسبب النكاح ; لأن حق الحبس لا يثبت في النكاح الفاسد ، وكذا النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة ، وكذا في عدة منه وإن ثبت حق الحبس ; لأنه لم يثبت بسبب النكاح لانعدام حقيقته وإنما يثبت لتحصين الماء ; ولأن حال العدة لا يكون أقوى من حال النكاح ا هـ . ملخصا وسيأتي من المؤلف الكلام على النكاح الفاسد في آخر هذه المقولة .

                                                                                        ( قوله : أطلق في الزوجة إلخ ) قال الرملي سيأتي أن الصغيرة التي لا توطأ لا نفقة لها فاستغنى عن استثنائها به تأمل .

                                                                                        ( قوله : بشرط أن يكون للصغير مال إلخ ) قال في الشرنبلالية قال قاضي خان وإن كانت كبيرة وليس للصغير مالا تجب على الأب نفقتها ويستدين الأب عليه ، ثم يرجع على الابن إذا أيسر أقول : هذا إذا كان في تزويج الصغير مصلحة ولا مصلحة في تزويج قاصر ومرضع بالغة حد الشهوة وطاقة الوطء بمهر كثير ولزوم نفقة يقررها القاضي تستغرق ماله إن كان أو يصير ذا دين كثير ، ونص المذهب أنه إذا عرف الأب بسوء الاختيار مجانة أو فسقا فالعقد باطل اتفاقا ، صرح به في البحر وغيره وقدمه المصنف في باب الولي ا هـ [ ص: 189 ]

                                                                                        ( قوله : وظاهر ما في الذخيرة إلخ ) أقول : عبارة الذخيرة البرهانية وإن كان يعني الزوج حاضرا أو كان صاحب مائدة فالقاضي لا يفرض لها النفقة وإن طلبت ; لأنها متعنتة في طلب النفقة ; لأن الرجل إذا كان بهذه الصفة ينفق على من ليس عليه نفقته فلا يمتنع من الإنفاق على من عليه نفقته فلا يفرض لها القاضي إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضر بها ولا ينفق عليها فحينئذ يفرض لها النفقة وإن لم يكن الزوج صاحب مائدة فالقاضي يفرض لها النفقة كل شهر . ا هـ .

                                                                                        وهو كما ترى لا يدل على ما ادعى والذي يدل كلامه عليه أنه إذا ظهر للقاضي تعنتها بأي طريق من الطرق لا يفرض من غير أن يكون إنفاقه على من لا يجب عليه إنفاقه شرطا وذلك لا يتوهمه ذو فهم مع قوله إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضر بها تأمل رملي .

                                                                                        ( قوله : فهي وإن ملكتها بالفرض لم تتصرف ) أي ليس لها التصرف فيها بالإنفاق وإنما الإنفاق له . ( قوله : وقوله عليه السلام لامرأة أبي سفيان ) لم يذكر لفظ الحديث هنا وذكره في البدائع أول الباب وهو أنه عليه الصلاة والسلام { قال لهند امرأة أبي سفيان : خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف } . وفي فتح القدير معزيا إلى الصحيحين { أن هند بنت عتبة قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني [ ص: 190 ] إلا ما أخذت من ماله بغير علمه ، فقال عليه السلام خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك }




                                                                                        الخدمات العلمية