الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2564 [ ص: 290 ] 1 - حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما ، وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن إلى قوله ولا هم يحلون لهن قال عروة : فأخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن بهذه الآية : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن - إلى - غفور رحيم قال عروة : قالت عائشة : فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد بايعتك ، كلاما يكلمها به ، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة وما بايعهن إلا بقوله .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله : " كان فيما اشترط سهيل بن عمرو " إلى قوله : " وجاء المؤمنات " ورجاله قد ذكروا غير مرة ، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطلاق ، ومروان هو ابن الحكم ، والمسور بكسر الميم ابن مخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة ، له ولأبيه صحبة .

                                                                                                                                                                                  قوله : ( يخبران عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) هكذا قال عقيل عن الزهري وهو مرسل عنهما لأنهما لم يحضرا القصة ، فعلى هذا فالحديث من مسند من لم يسم من الصحابة ، ولم يصب من أخرجه من أصحاب الأطراف في مسند المسور أو مروان ، أما مروان فإنه لا يصح له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صحبة لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - أباه الحكم ، وكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردهما ، وقد روى حديث الحديبية بطوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما المسور فصح سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح ، وكانت هذه القصة قبل ذلك بسنتين ، ولا يقال إنه رواية عن المجهول لأن الصحابة كلهم عدول ، فلا قدح فيه بسبب عدم معرفة أسمائهم ، قوله : ( لما كاتب سهيل بن عمرو ) قد ذكرنا ترجمته فيما مضى عن قريب ، وكان أحد أشراف قريش وخطيبهم ، أسر يوم بدر فقال عمر رضي الله تعالى عنه : " انزع ثنيته فلا يقوم عليك خطيبا " فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " دعه فعسى أن يقوم مقاما تحمده " أسلم يوم الفتح وكان رقيقا كثير البكاء عند قراءة القرآن ، فمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلف الناس بمكة وارتد كثيرون فقام سهيل خطيبا وسكن الناس ومنعهم من الاختلاف ، وهذا هو المقام الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قوله : ( يومئذ ) أي يوم صلح الحديبية ، قوله : ( فامتعضوا منه ) بعين مهملة وضاد معجمة ، وقال ابن الأثير : معناه شق عليهم وعظم ، يقال : معض من شيء سمعه وامتعض إذا غضب وشق عليه ، وقال القاضي : لا أصل لهذا من كلام العرب ، وأحسبه فكرهوا ذلك ، وامتعضوا منه أي شق عليهم ، وقال ابن قرقول : " امتعظوا " كذا للأصيلي والهمداني وفسروه كرهوه وهو غير صحيح وفي الخط والهجاء ، وإنما يصح لو كان امتعضوا بضاد غير مشالة كما عند أبي ذر هنا وعبدوس بمعنى كرهوا وأنفوا ، وقد وقع مفسرا كذلك في بعض الروايات في ( الأم ) وعند القابسي أيضا في ( المغازي ) : " امعظوا " بتشديد الميم وبالظاء المعجمة ، وكذا لعبدوس ، وعند بعضهم : " اتغظوا " من الغيظ ، وعند بعضهم عن النسفي واتغضوا بغين [ ص: 291 ] معجمة وضاد معجمة غير مشالة قال : وكل هذه الروايات إحالات وتغييرات ولا وجه لشيء من ذلك إلا امتعضوا ، ومعنى اتغضوا في رواية النسفي تفرقوا من الإنغاض ، قال الله تعالى : فسينغضون إليك قوله : مهاجرات نصب على الحال من المؤمنات ، قوله : ( أم كلثوم ) بضم الكاف وسكون اللام وضم الثاء المثلثة بنت عقبة بضم العين المهملة وسكون القاف وفتح الباء الموحدة ابن أبي معيط بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره طاء مهملة أم حميد بن عبد الرحمن ، قوله : ( وهي عاتق ) جملة حالية ، والعاتق بالتاء المثناة من فوق الجارية الشابة أول ما أدركت ، قوله : ( أن يرجعها ) بفتح الياء ورجع يتعدى ولا يتعدى ، قوله : إذا جاءكم المؤمنات وأولها قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم قوله : إذا جاءكم المؤمنات سماهن مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بكلمة الشهادة ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك ، قوله : مهاجرات يعني من دار الكفر إلى دار الإسلام ، قوله : فامتحنوهن أي فاختبروهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن ، وقال ابن عباس : معنى امتحانهن أن يستحلفن ما خرجن من بغض زوج ، وما خرجن عن أرض إلى أرض ، وما خرجن التماس دنيا ، وما خرجن إلا حبا لله ورسوله ، قوله : الله أعلم بإيمانهن أي أعلم منكم لأنكم تكسبون فيه علما يطمئن معه نفوسكم إذا استحلفتموهن وعند الله حقيقة العلم به فإن علمتموهن مؤمنات العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات فلا ترجعوهن إلى الكفار ولا تردوهن إلى أزواجهن المشركين لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك ، قوله : وآتوهم أي أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا مثل ما دفعوا إليهن من المهر سمي الظن الغالب علما في قوله فإن علمتموهن مؤمنات إيذانا بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس بشرائطها جار مجرى العلم وأن صاحبه غير داخل في قوله ولا تقف ما ليس لك به علم

                                                                                                                                                                                  قوله : ولا جناح عليكم يعني أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وإن كان لهن أزواج كفار لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن بالحيض ، والمراد من الأجور مهورهن لأن المهر أجر البضع ، قوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر العصم جمع العصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب والكوافر جمع كافرة ، ونهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات وأمرهن بفراقهن ، وقال ابن عباس : يقول لا نأخذ بعقد الكوافر فمن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يتقيدن بها فقد انقطعت عصمتها منه ، قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين ، قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها أبو جهم بن حذافة رجل من قومها وهما على شركهما ، قوله : واسألوا ما أنفقتم أي اسألوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم عليهن من الصداق من تزوجهن منهم وليسألوا يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم من تزوجها منكم ما أنفقوا أي أزواجهن المشركين من المهر ، قوله : ذلكم إشارة إلى جميع ما ذكر في هذه الآية ، قوله : حكم الله يحكم بينكم كلام مستأنف ، وقيل حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكم الله بينكم والله عليم حكيم ، قوله : وإن فاتكم شيء من أزواجكم أي وإن سبقكم وانفلت منكم من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم يعني فظفرتم وأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة وظفرتم وكانت العاقبة لكم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار منكم ، ( مثل ما أنفقوا عليهن ) من الغنيمة التي صارت في أيديكم من أموال الكفار ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة ، أم الحكيم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، [ ص: 292 ] وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى وزوجها عمرو بن ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص ، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب ، فأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهور نسائهم من الغنيمة .

                                                                                                                                                                                  قوله : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات الآية ، لما فتح رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وفرغ من بيعة الرجال جاءت النساء يبايعنه فنزلت هذه الآية ، قوله : يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا يأتين بولد ليس من أزواجهن فينسبنه إليهم ، وقيل : بين أيديهن ألسنتهن ( وبين أرجلهن ) فروجهن ، وقيل : هو توكيد مثل ما كسبت أيديكم ، قوله : ولا يعصينك في معروف قيل : هذا في النوح ، وقيل : ( لا يخلون بغير ذي محرم ) وقيل : ( في كل حق معروف لله تعالى ) قوله : ( عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها ) هو متصل بالإسناد المذكور أولا ، قوله : ( كلاما ) هو كلام عائشة وقع حالا ، قوله : ( والله ما مست يده إلى آخره ) وكانت عائشة تقول : كان صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية ، وما مس يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة قط إلا يد امرأة يملكها ، وعن الشعبي : كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يبايع النساء وعلى يده ثوب قطري ، وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمس أيديهن فيه .

                                                                                                                                                                                  واختلف العلماء في صلح المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلما ، فقال قوم : لا يجوز هذا وهو منسوخ بقوله عليه السلام : " أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب " وقد أجمع المسلمون أن هجرة دار الحرب فريضة على الرجال والنساء ، وذلك الذي بقي من فرض الهجرة ، هذا قول الكوفيين وقول أصحاب مالك ، وقال الشافعي : هذا الحكم في الرجال غير منسوخ وليس لأحد هذا العقد إلا للخليفة أو لرجل يأمره فمن عقد غير الخليفة فهو مردود ، وفي ( التوضيح ) : وقول الشافعي وهذا الحكم في الرجال غير منسوخ يدل أن مذهبه أنه في النساء منسوخ .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية