الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4 (قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: وهو يحدث، عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 65 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 65 ] ابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وقد مر وأبو سلمة بفتحتين اسمه عبد الله أو إسماعيل أو اسمه كنيته ابن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرة بالجنة القرشي الزهري المدني التابعي الإمام الجليل المتفق على إمامته وجلالته وثقته، وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال، سمع جماعة من الصحابة والتابعين، وعنه خلائق من التابعين منهم الشعبي فمن بعدهم.

                                                                                                                                                                                  وتزوج أبوه تماضر بضم التاء المثناة من فوق وكسر المعجمة بنت الأصبع بفتح الهمزة وسكون المهملة وفي آخره عين غير معجمة وهي الكلبية من أهل دومة الجندل، ولم تلد لعبد الرحمن غير أبي سلمة; توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة في خلافة الوليد.

                                                                                                                                                                                  وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملة والراء ابن عمرو بن سواد بتخفيف الواو ابن سلمة بكسر اللام ابن سعد بن علي بن أسد بن ساردة ابن تريد بالتاء المثناة من فوق ابن جشم بضم الجيم وفتح الشين المعجمة ابن الخزرج الأنصاري السلمي بفتح السين واللام، وحكي في لغة كسرها، المدني أبو عبد الله أو عبد الرحمن أو أبو محمد أحد الستة المكثرين، روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعون حديثا، أخرجا له مائتي حديث وعشرة أحاديث اتفقا منها على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين.

                                                                                                                                                                                  وأمه نسيبة بنت عقبة بن عدي، مات بعد أن عمي سنة ثمان أو ثلاث أو أربع أو تسع وسبعين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وكان عمره أربعا وتسعين سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة وهو آخر الصحابة موتا بالمدينة.

                                                                                                                                                                                  وجابر بن عبد الله في الصحابة ثلاثة: جابر بن عبد الله هذا، وجابر بن عبد الله بن رباب بن النعمان بن سنان، وجابر بن عبد الله الراسبي نزيل البصرة.

                                                                                                                                                                                  وأما جابر في الصحابة فأربعة وعشرون نفرا.

                                                                                                                                                                                  وجابر بن عبد الله في غير الصحابة خمسة:

                                                                                                                                                                                  الأول: سلمي، يروي عن أبيه عن كعب الأحبار.

                                                                                                                                                                                  الثاني: محاربي، عنه الأوزاعي.

                                                                                                                                                                                  الثالث: غطفاني، يروي عن عبد الله بن الحسن العلوي.

                                                                                                                                                                                  الرابع: مصري، عنه يونس بن عبد الأعلى.

                                                                                                                                                                                  الخامس: يروي عن الحسن البصري وكان كذابا.

                                                                                                                                                                                  وجابر يشتبه بجاثر بالثاء المثلثة موضع الباء الموحدة، وبخاتر بالخاء المعجمة ثم ألف ثم تاء مثناة من فوق ثم راء، فالأول أبو القبيلة التي بعث الله منها صالحا عليه الصلاة والسلام، وهو ثمود بن جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وأخوه جديس بن جاثر. والثاني: معنا له أخبار وحكايات مشهورة.

                                                                                                                                                                                  (حكم الحديث) قال الكرماني : مثل هذا; أي ما لم يذكر من أول الإسناد واحدا أو أكثر يسمى تعليقا ولا يذكره البخاري إلا إذا كان مسندا عنده إما بالإسناد المتقدم; كأنه قال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل أنه قال: قال ابن شهاب: أو بإسناد آخر. وقد ترك الإسناد هاهنا لغرض من الأغراض المتعلقة بالتعليق لكون الحديث معروفا من جهة الثقات أو لكونه مذكورا في موضع آخر أو نحوه.

                                                                                                                                                                                  قال بعضهم: وأخطأ من زعم أن هذا معلق، قلت: يعرض بذلك للكرماني، ولا معنى للتعريض لأن الحديث صورته في الظاهر من التعليق وإن كان مسندا عنده في موضع آخر فإنه أخرجه أيضا في الأدب وفي التفسير أتم من هذا، وأوله: " عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: يا أيها المدثر قلت: يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك، قلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري.. "، ثم ذكر نحوه.

                                                                                                                                                                                  وقال في التفسير: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، (ح) وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، أخبرني.. فذكره.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه مسلم بألفاظه.

                                                                                                                                                                                  (ومن لطائف إسناده) أن كلهم مدنيون، وفيه تابعي عن تابعي، فإن قلت: لم قال: قال ابن شهاب ولم يقل: وروى أو وعن ابن شهاب ونحو ذلك؟ قلت: قالوا: إذا كان الحديث ضعيفا لا يقال فيه قال لأنه من صيغ الجزم، بل يقال حكى أو قيل أو يقال بصيغة التمريض.

                                                                                                                                                                                  وقد اعتنى البخاري بهذا الفرق في صحيحه كما سترى وذلك من غاية إتقانه، فإن قيل: ما كان مراده من إخراجه بهذه الصورة مع أنه أخرجه مسندا في صحيحه في موضع آخر؟ قلت: لعله وضعه على هذه الصورة قبل أن وقف عليه مسندا، فلما وقف عليه مسندا ذكره وترك الأول على حاله لعدم خلوه عن فائدة.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 66 ] (بيان اللغات) قوله "عن فترة الوحي" وهو احتباسه، وقد مر الكلام فيه مستوفى، قوله "على كرسي" هو بضم الكاف وكسرها والضم أفصح وجمعه كراسي بتشديد الياء وتخفيفها، قال ابن السكيت: كل ما كان من هذا النحو مفرده مشدد كعارية وسرية جاز في جمعه التشديد والتخفيف.

                                                                                                                                                                                  وقال الماوردي في تفسيره: أصل الكرسي العلم، ومنه قيل لصحيفة يكون فيها علم كراسة، وقال الزمخشري: الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد، وفي العباب: الكرسي من قولهم كرس الرجل بالكسر إذا ازدحم علمه على قلبه، فإن قلت: ما هذه الياء فيه؟ قلت: ليست ياء النسبة وإنما هو موضوع على هذه الصيغة، فإذا أريد النسبة إليه تحذف الياء منه ويؤتى بياء النسبة، فيقال: كرسي أيضا، فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله " فرعبت منه " بضم الراء وكسر العين على ما لم يسم فاعله، ورواية الأصيلي بفتح الراء وبضم العين وهما صحيحان حكاهما الجوهري وغيره، قال يعقوب: رعب ورعب، واقتصر النووي في شرحه الذي لم يكمله على الأول، وقال بعضهم: الرواية بضم العين واللغة بفتحها، حكاه السفاقسي والرعب الخوف، يقال: رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته، ولا يقال: أرعبته. تقول: رعب الرجل على وزن فعل كضرب بمعنى خوفه هذا إذا عديته، فإن ضممت العين قلت: رعبت منه، وإن بنيته على ما لم يسم فاعله ضممت الراء، فقلت: رعبت منه.

                                                                                                                                                                                  وفي البخاري في التفسير ومسلم هنا: "فجئثت منه" بضم الجيم وكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة; من جئث الرجل أي أفزع فهو مجؤوث أي مذعور، ومادته جيم ثم همزة ثم ثاء مثلثة، قال القاضي: كذا هو للكافة في الصحيحين، وروي "فجثثت" بضم الجيم وكسر الثاء المثلثة الأولى وسكون الثانية وهو بمعنى الأول، ومادته جيم ثم ثاآن مثلثتان.

                                                                                                                                                                                  وفي بعض الروايات "حتى هويت إلى الأرض" أي سقطت، أخرجها مسلم وهو بفتح الواو، وفي بعضها " فأخذتني رجفة "، وهي كثرة الاضطراب.

                                                                                                                                                                                  قوله " زملوني " في أكثر الأصول: " زملوني زملوني " مرتين، وفي رواية كريمة مرة واحدة، وللبخاري في التفسير ولمسلم أيضا " دثروني " وهو هو كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  قوله يا أيها المدثر أصله المتدثر، وكذلك المزمل أصله المتزمل، والمدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بمعنى، وسماه الله تعالى بذلك إيناسا له وتلطفا، ثم الجمهور على أن معناه المتدثر بثيابه. وحكى الماوردي عن عكرمة أن معناه المتدثر بالنبوة وأعبائها.

                                                                                                                                                                                  قوله " قم فأنذر " أي حذر العذاب من لم يؤمن بالله، وفيه دلالة على أنه أمر بالإنذار عقيب نزول الوحي للإتيان بالفاء التعقيبية، فإن قلت: النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بشيرا ونذيرا، فكيف أمر بالإنذار دون البشارة؟ قلت: البشارة إنما تكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن إذ ذاك من دخل فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله وربك فكبر أي عظمه ونزهه عما لا يليق به، وقيل: أراد به تكبيرة الافتتاح للصلاة وفيه نظر، قوله وثيابك فطهر أي من النجاسات على مذهب الفقهاء، وقيل: أي فقصر، وقيل المراد بالثياب النفس أي طهرها من كل نقص أي اجتنب النقائص.

                                                                                                                                                                                  قوله والرجز بكسر الراء في قراءة الأكثر، وقرأ حفص عن عاصم بضمها وهي الأوثان في قول الأكثرين.

                                                                                                                                                                                  وفي مسلم التصريح به، وفي التفسير عن أبي سلمة التصريح به، وقيل: الشرك، وقيل: الذنب، وقيل: الظلم، وأصل الرجز في اللغة العذاب، ويسمى عبادة الأوثان وغيرها من أنواع الكفر رجزا لأنه سبب العذاب.

                                                                                                                                                                                  قوله " فحمي " بفتح الحاء وكسر الميم معناه كثر نزوله من قولهم حميت النار والشمس أي كثرت حرارتها، ومنه قولهم: حمي الوطيس، والوطيس التنور استعير للحرب.

                                                                                                                                                                                  قوله " وتتابع " تفاعل من التتابع، قالت الشراح كلهم: ومعناهما واحد، فأكد أحدهما بالآخر، قلت: ليس معناهما واحدا فإن معنى حمي النهار اشتد حره، ومعنى تتابع تواتر، وأراد بحمي الوحي اشتداده وهجومه، وبقوله " تتابع " تواتره وعدم انقطاعه، وإنما لم يكتف بحمي وحده لأنه لا يستلزم الاستمرار والدوام والتواتر; فلذلك زاد قوله " وتتابع " فافهم، فإنه من الأسرار الربانية والأفكار الرحمانية، ويؤيد ما ذكرنا رواية الكشميهني، وتواتر موضع وتتابع، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير خلل، ولقد أبعد من قال: " وتتابع " توكيد معنوي لأن التأكيد المعنوي له ألفاظ مخصوصة كما عرف في موضعه، فإن قال: ما أردت به التأكيد الاصطلاحي، يقال له: هذا إنما يكون بين لفظين معناهما واحد، وقد بينا المغايرة بين حمي وتتابع، والرجوع إلى الحق من جملة الدين.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله " قال ابن شهاب " فعل وفاعل، قوله " وأخبرني " معطوف على محذوف هو مقول القول تقديره: قال ابن شهاب أخبرني عروة بكذا وأخبرني أبو سلمة بكذا، فلأجل قصده بيان الإخبار عن عروة بن الزبير [ ص: 67 ] وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أتى بواو العطف وإلا فمقول القول لا يكون بالواو ونحوه فافهم، قوله " أن جابر بن عبد الله " بفتح أن لأنها في محل النصب على المفعولية: قوله " وهو يحدث " جملة اسمية وقعت حالا أي قال في حالة التحديث عن احتباس الوحي عن النزول أو قال جابر في حالة التحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله " بينا " أصله بين بلا ألف فأشبعت الفتحة فصارت ألفا ويزاد عليها ما فيصير بينما ومعناهما واحد وهو من الظروف الزمانية اللازمة للإضافة إلى الجملة الاسمية، والعامل فيه الجواب إذا كان مجردا من كلمة المفاجأة وإلا فمعنى المفاجأة المتضمنة هي إياها ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى، وقيل: اقتضى جوابا لأنها ظرف يتضمن المجازاة والأفصح في جوابه إذ وإذا خلافا للأصمعي، والمعنى أن في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع.

                                                                                                                                                                                  قوله " إذ سمعت " جواب بينا على ما ذكرنا.

                                                                                                                                                                                  قوله " فإذا الملك " كلمة إذا هاهنا للمفاجأة وهي تختص بالجمل الاسمية ولا تحتاج إلى الجواب ولا يقع في الابتداء ومعناها الحال لا الاستقبال; نحو: خرجت فإذا الأسد بالباب، وهي حرف عند الأخفش، واختاره ابن مالك. وظرف مكان عند المبرد، واختاره ابن عصفور. وظرف زمان عند الزجاج، واختاره الزمخشري.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ما الفاء في " فإذا "، قلت: زائدة لازمة عند الفارسي والمازني وجماعة، وعاطفة عند أبي الفتح، وللسببية المحضة عند أبي إسحاق.

                                                                                                                                                                                  قوله " جالس " بالرفع، كذا في البخاري وفي مسلم " جالسا " بالنصب، قال النووي: كذا هو في الأصول، وجاء في رواية: فإذا الملك الذي جاءني بحراء واقف بين السماء والأرض، وفي طريق آخر: على عرش بين السماء والأرض، ولمسلم: فإذا هو على العرش في الهواء، وفي رواية: على كرسي، وهو تفسير العرش المذكور.

                                                                                                                                                                                  قال أهل اللغة: العرش السرير، فإن قلت: وجه الرفع ظاهر لأنه خبر عن الملك الذي هو مبتدأ وقوله الذي جاءني بحراء صفته، فما وجه النصب؟ قلت: على الجملة الحالية من الملك، " فإن قلت " إذا نصب جالسا على الحال فماذا يكون خبر المبتدأ وقد قلت إن إذا المفاجئة تختص بالاسمية، قلت: حينئذ يكون الخبر محذوفا مقدرا ويكون التقدير فإذا الملك الذي جاءني بحراء شاهدته حال كونه جالسا على كرسي أو نحو ذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله " بين السماء والأرض " ظرف ولكنه في محل الجر لأنه صفة لكرسي، والفاء في " فرعبت " تصلح للسببية، وكذا في " فرجعت " لأن رؤية الملك على هذه الحالة سبب لرعبه ورعبه سبب لرجوعه، والفاء في " فقلت " وفي " فأنزل الله " على أصلها للتعقيب.

                                                                                                                                                                                  قوله " وربك " منصوب بقوله فكبر وثيابك بقوله فطهر والرجز بقوله فاهجر فإن قلت: ما الفاآت في الآية؟ قلت: الفاء في فأنذر تعقيبية وبقية الفاآت كالفاء في قوله تعالى بل الله فاعبد فقيل: جواب لا ما مقدرة، وقيل: زائدة وإليه مال الفارسي، وعند الأكثرين عاطفة، والأصل تنبه فاعبد الله، ثم حذف تنبه وقدم المنصوب على الفاء إصلاحا للفظ لئلا تقع الفاء صدرا، قوله " فحمي الفاء فيه عاطفة، والتقدير: فبعد إنزال الله هذه الآية حمي الوحي.

                                                                                                                                                                                  (استنباط الفوائد) منها الدلالة على وجود الملائكة ردا على زنادقة الفلاسفة، ومنها إظهار قدرة الله تعالى إذ جعل الهواء للملائكة يتصرفون فيه كيف شاؤوا كما جعل الأرض لبني آدم يتصرفون فيها كيف شاؤوا فهو ممسكهما بقدرته، ومنها أنه عبر بقوله " فحمي " تتميما للتمثيل الذي مثلت به عائشة أولا وهو كونها جعلت الرؤيا كمثل فلق الصبح، فإن الضوء لا يشتد إلا مع قوة الحر، وألحق ذلك بتتابع لئلا يقع التمثيل بالشمس من كل الجهات لأن الشمس يلحقها الأفول والكسوف ونحوهما وشمس الشريعة باقية على حالها لا يلحقها نقص.

                                                                                                                                                                                  وتابعه عبد الله بن يوسف وأبو صالح، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري، وقال يونس: ومعمر بوادره تابعه فعل ومفعول، وعبد الله فاعله والضمير يرجع إلى يحيى بن بكير شيخ البخاري المذكور في أول الحديث المذكور آنفا، وقوله " وأبو صالح " عطف على عبد الله بن يوسف وهو أيضا تابع يحيى بن بكير.

                                                                                                                                                                                  والحاصل أن عبد الله بن يوسف وأبا صالحا تابعا يحيى بن بكير في الرواية عن الليث بن سعد، فرواه عن الليث ثلاثة: يحيى بن بكير، وعبد الله بن يوسف، وأبو صالح.

                                                                                                                                                                                  أما متابعة عبد الله بن يوسف ليحيى بن بكير في روايته عن الليث بن سعد فأخرجها البخاري في التفسير والأدب، وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به، والترمذي في التفسير عن عبد الله بن حميد عن عبد الرازق به، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في التفسير أيضا عن محمود بن خالد عن عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي به، وعن محمد بن رافع عن محمد بن المثنى عن الليث عن ابن شهاب به.

                                                                                                                                                                                  وأما رواية أبي صالح عن الليث بهذا الحديث [ ص: 68 ] فأخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، قوله " وتابعه هلال بن رداد " أي تابع عقيل بن خالد هلال بن رداد عن محمد بن مسلم الزهري، فإن قلت: كيف أعيد الضمير المنصوب في " وتابعه " إلى عقيل، وربما يتوهم أنه عائد إلى أبي صالح أو إلى عبد الله بن يوسف لكونهما قريبين منه، قلت: قوله " عند الزهري " هو الذي عين عود الضمير إلى عقيل ودفع التوهم المذكور لأن الذي روى عن الزهري في الحديث المذكور هو عقيل، والحاصل أن هلال بن رداد روى الحديث المذكور عن الزهري كما رواه عقيل بن خالد عنه، وحديثه في الزهريات للذهلي، وهذا أول موضع جاء فيه ذكر المتابعة.

                                                                                                                                                                                  والفرق بين المتابعتين أن المتابعة الأولى أقوى لأنها متابعة تامة والمتابعة الثانية أدنى من الأولى لأنها متابعة ناقصة، فإذا كان أحد الراويين رفيقا للآخر من أول الإسناد إلى آخره تسمى بالمتابعة التامة وإذا كان رفيقا له لا من الأول يسمى بالمتابعة الناقصة، ثم النوعان ربما يسمى المتابع عليه فيهما وربما لا يسمى، ففي المتابعة الأولى لم يسم المتابع عليه وهو الليث، وفي الثانية يسمى المتابع عليه وهو الزهري، فقد وقع في هذا الحديث المتابعة التامة والمتابعة الناقصة ولم يسم المتابع عليه في الأولى وسماه في الثانية على ما لا يخفى، وقال النووي: ومما يحتاج إليه المعتني بصحيح البخاري.

                                                                                                                                                                                  (فائدة ننبه عليها) وهي أنه تارة يقول: تابعه مالك عن أيوب، وتارة يقول: تابعه مالك ولا يزيد، فإذا قال: مالك عن أيوب، فهذا ظاهر. وأما إذا اقتصر على تابعه مالك فلا يعرف لمن المتابعة إلا من يعرف طبقات الرواة ومراتبهم، وقال الكرماني: فعلى هذا لا يعلم أن عبد الله يروي عن الليث أو عن غيره، قلت: الطريقة في هذا أن تنظر طبقة المتابع بكسر الباء فتجعله متابعا لمن هو في طبقته بحيث يكون صالحا لذلك، ألا ترى كيف لم يسم البخاري المتابع عليه في المتابعة الأولى وسماه في الثانية؟ فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله " وقال يونس ومعمر: بوادره " مراده أن أصحاب الزهري اختلفوا في هذه اللفظة، فروى عقيل عن الزهري في الحديث " يرجف فؤاده "، كما مضى وتابعه على هذه اللفظة هلال بن رداد، وخالفه يونس ومعمر فروى عن الزهري: يرجف فؤاده.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، وقد ذكر.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أبو صالح، قال أكثر الشراح: هو عبد الغفار بن داود بن مهران بن زياد بن داود بن ربيعة بن سليمان بن عمير البكري الحراني، ولد بإفريقية سنة أربعين ومائة وخرج به أبوه وهو طفل إلى البصرة وكانت أمه من أهلها فنشأ بها وتفقه وسمع الحديث من حماد بن سلمة، ثم رجع إلى مصر مع أبيه وسمع من الليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهما، وسمع بالشام إسماعيل بن عياش وبالجزيرة موسى بن أعين، واستوطن مصر وحدث بها وكان يكره أن يقال له الحراني، وإنما قيل له الحراني لأن أخويه عبد الله وعبد الرحمن ولدا بها ولم يزالا بها، وحران مدينة بالجزيرة من ديار بكر واليوم خراب، سميت بحران بن آزر أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، روى عنه يحيى بن معين والبخاري، وروى أبو داود عن رجل عنه، وخرج له النسائي وابن ماجه، ومات بمصر سنة أربع وعشرين ومائتين.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: هذا وهم، وإنما هو أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث المصري ولم يتبين لي وجهه في الترجيح لأن البخاري روى عن كليهما.

                                                                                                                                                                                  الثالث: هلال بن رداد براء ثم دالين مهملتين الأولى منهما مشددة، وهو طائي حمصي أخرج البخاري هنا متابعة لعقيل، وليس له ذكر في البخاري إلا في هذا الموضع، ولم يخرج له باقي الكتب الستة، روى عن الزهري وعنه ابنه أبو القاسم محمد، قال الذهلي: كان كاتبا لهشام ولم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم في كتابه، وإنما ذكر ابن أبي حاتم ثم ولده محمدا إذ ليس له ذكر في الكتب الستة، قال ابن أبي حاتم: هلال بن رداد مجهول، ولم يذكره الكلاباذي في رجال الصحيح رأسا.

                                                                                                                                                                                  الرابع: محمد بن مسلم الزهري، وقد مر ذكره.

                                                                                                                                                                                  الخامس: يونس بن يزيد بن مشكان بن أبي النجاد بكسر النون الأيلي بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف القرشي، مولى معاوية بن أبي سفيان، سمع خلقا من التابعين; منهم: القاسم، وعكرمة، وسالم، ونافع، والزهري، وغيرهم. وعنه الأعلام: جرير بن حازم وهو تابعي، فهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، والأوزاعي والليث، وخلق.

                                                                                                                                                                                  مات سنة تسع وخمسين ومائة بمصر، روى له الجماعة، وفي يونس ستة أوجه: ضم النون، وكسرها، وفتحها مع الهمزة، وتركها، والضم بلا همزة أفصح.

                                                                                                                                                                                  السادس: أبو عروة معمر بن أبي عمرو بن راشد الأزدي الحراني مولاهم عالم اليمن شهد جنازة [ ص: 69 ] الحسن البصري وسمع خلقا من التابعين منهم عمرو بن دينار وأيوب وقتادة، وعنه جماعة من التابعين; منهم: عمرو بن دينار، وأبو إسحاق السبيعي، وأيوب، ويحيى بن أبي كثير. وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، قال عبد الرزاق: سمعت منه عشرة آلاف حديث، مات باليمن سنة أربع أو ثلاث أو اثنتين وخمسين ومائة عن ثمان وخمسين سنة، وله أوهام كثيرة احتملت له، قال أبو حاتم: صالح الحديث، وما حدث به بالبصرة ففيه أغاليط، وضعفه يحيى بن معين في رواية عن ثابت ومعمر بفتح الميمين وسكون العين، وليس في الصحيحين معمر بن راشد غير هذا بل ليس فيهما من اسمه معمر غيره، نعم في صحيح البخاري معمر بن يحيى بن سام الضبي، وقيل: إنه بتشديد الميم روى له البخاري حديثا واحدا في الغسل، وفي الصحابة معمر ثلاثة عشر، وفي الرواة: معمر في الكتب الأربعة ستة، وفيها معمر بالتشديد بخلف خمسة، وفي غيرها خلق. معمر بن بكار شيخ لمطين في حديثه وهم، ومعمر بن أبي سرح مجهول، ومعمر بن الحسن الهذلي مجهول وحديثه منكر، ومعمر بن زائدة لا يتابع على حديثه، ومعمر بن زيد مجهول، ومعمر بن أبي سرح مجهول، ومعمر بن عبد الله عن شعبة لا يتابع على حديثه، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  (فائدة) أبو صالح في الرواة في مجموع الكتب الستة أربعة عشر: أبو صالح عبد الغفار، أبو صالح عبد الله بن صالح. وقد ذكرناهما، أبو صالح الأشعري الشامي، أبو صالح الأشعري أيضا، ويقال: الأنصاري، أبو صالح الحارثي، أبو صالح الحنفي، اسمه عبد الرحمن بن قيس، ويقال: إنه ماهان، أبو صالح الحوري، لا يعرف اسمه، أبو صالح السمان، اسمه ذكوان، أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن، أبو صالح المكي محمد بن زنبور، روى عن عيسى بن يونس، أبو صالح مولى طلحة بن عبد الله القرشي التيمي، أبو صالح مولى عثمان بن عفان، أبو صالح مولى ضباعة اسمه مينا، أبو صالح مولى أم هانئ اسمه باذان، وكلهم تابعيون خلا ابن زنبور وكاتب الليث، وبعضهم عد الأخير صحابيا، وله حديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده، وليس في الصحابة على تقدير صحته من يكنى بهذه الكنية غيره، وأما في غير الكتب الستة فإنهم جماعة فوق العشرة بينهم الرامهرمزي في فاصله.

                                                                                                                                                                                  قوله " بوادره " بفتح الباء الموحدة جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان، وقال أبو عبيدة: تكون من الإنسان وغيره، وقال الأصمعي: الفريصة اللحمة التي بين الجنب والكتف التي لا تزال ترتعد من الدابة وجمعها فرائص.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن سيده في المخصص: البادرتان من الإنسان لحمتان فوق الرغثاوين وأسفل التندوة، وقيل: هما جانبا الكركرة، وقيل: هما عرقان يكتنفانها، قال: والبادرة من الإنسان وغيره، وقال الهجري في أماليه: ليست للشاة بادرة ومكانها مردغة للشاة، وهما الأرتبان تحت صليفي العنق لا عظم فيهما، وادعى الداودي أن البوادر والفؤاد واحد، قلت: الرغثاوان بضم الراء وسكون الغين المعجمة بعدها ثاء مثلثة، قال الليث: الرغثاوان مضيفتان بين التندوة والمنكب بجانبي الصدر، وقال شهر: الرغثاء ما بين الإبط إلى أسفل الثدي مما يلي الإبط وكذلك قاله ابن الأعرابي، قوله "مردغة" بفتح الميم وسكون الراء وفتح الدال المهملة والغين المعجمة، وهي واحدة المرادغ، قال أبو عمر: وهي ما بين العنق إلى الترقوة.

                                                                                                                                                                                  قوله " صليفي العنق " بفتح الصاد المهملة وكسر اللام وبالفاء، قال أبو زيد: الصليفان رأسا الفقرة التي تلي الرأس من شقيهما.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية