الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  900 65 - حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : سألته هل صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني : صلاة الخوف ، قال : أخبرني سالم ، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد ، فوازينا العدو ، فصاففنا لهم ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنا ، فقامت طائفة معه تصلي ، وأقبلت طائفة على العدو ، وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه ، وسجد سجدتين ، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ، فجاؤوا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة ، وسجد سجدتين ، ثم سلم ، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة ، وسجد سجدتين .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن المذكور فيها مشروعية صلاة الخوف ، والحديث فيه كذلك مع بيان صفتها .

                                                                                                                                                                                  ذكر [ ص: 255 ] رجاله : وهم خمسة : الأول : أبو اليمان الحكم بن نافع ، الثاني : شعيب بن أبي حمزة ، الثالث : محمد بن مسلم الزهري ، الرابع : سالم بن عبد الله بن عمر ، الخامس : أبوه عبد الله بن عمر .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع ، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، وفيه السؤال ، وفيه الإخبار بصيغة الإفراد ، وفيه القول في أربعة مواضع ، وفيه أن الأولين من الرواة حمصيان ، والاثنين بعدهما مدنيان .

                                                                                                                                                                                  ذكر تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن أبي اليمان ، وأخرجه مسلم أيضا عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وأخرجه أبو داود عن مسدد بن عبد الملك عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري ، وأخرجه الترمذي عن محمد بن عبد الملك عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري ، وأخرجه النسائي عن كثير بن عبيد عن بقية عن شعيب عن الزهري عن سالم عن أبيه ، وأخرجه النسائي أيضا عن عبد الأعلى بن واصل عن يحيى بن آدم عن سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر .

                                                                                                                                                                                  ولما أخرج الترمذي حديث ابن عمر . قال : وفي الباب عن جابر ، وحذيفة ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن مسعود سهل ابن أبي حثمة ، وأبي عياش الزرقي ، واسمه زيد بن صامت ، وأبي بكرة .

                                                                                                                                                                                  قلت : وفيه أيضا عن علي، وعائشة ، وخوات بن جبير ، وأبي موسى الأشعري ، فحديث جابر عند مسلم موصولا ، وعند البخاري معلقا في المغازي ، وحديث حذيفة عند أبي داود والنسائي ، وحديث زيد بن ثابت عند النسائي ، وحديث ابن عباس عند البخاري والنسائي ، وحديث أبي هريرة عند البخاري في التفسير والنسائي في الصلاة ، وحديث ابن مسعود عند أبي داود ، وحديث سهل بن أبي حثمة عند الترمذي ، وحديث أبي عياش عند أبي داود والنسائي ، وحديث أبي بكرة عند أبي داود والنسائي ، وحديث علي عند البزار ، وحديث عائشة عند أبي داود ، وحديث خوات بن جبير عند ابن منده في ( معرفة الصحابة ) ، وحديث أبي موسى عند ابن عبد البر في ( التمهيد ) .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " سألته " السائل هو شعيب ، أي : سألت الزهري ، قوله : “ هل صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية السراج عن محمد بن يحيى عن أبي اليمان شيخ البخاري " سألته هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، وكيف صلاها إن كان صلاها " ، قوله : “ قبل نجد " بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي : جهة نجد ، والنجد كل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد ، وهذه الغزوة هي غزوة ذات الرقاع .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن إسحاق : أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع ، وبعض جمادى ، ثم غزا نجدا يريد بني محارب ، وبني ثعلبة من غطفان ، واستعمل على المدينة أبا ذر رضي الله تعالى عنه ، قال ابن هشام : ويقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، قال ابن إسحاق : فسار حتى نزل نجدا ، وهي غزوة ذات الرقاع .

                                                                                                                                                                                  قلت : ذكرها في السنة الرابعة من الهجرة ، وكانت فيها غزوة بني النضير أيضا ، وهي التي أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر ، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال : كانت غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد ، وكانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث .

                                                                                                                                                                                  واختلفوا في أي سنة نزل بيان صلاة الخوف ، فقال الجمهور : إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع ، قاله محمد بن سعد وغيره ، واختلف أهل السير في أي سنة كانت ، فقيل سنة أربع ، وقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة ست ، وقيل : سنة سبع ، فقال محمد بن إسحاق : كانت أول ما صليت قبل بدر الموعد ، وذكر ابن إسحاق وابن عبد البر أن بدر الموعد كانت في شعبان من سنة أربع .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن إسحاق : وكانت ذات الرقاع في جمادى الأولى ، وكذا قال أبو عمر بن عبد البر : إنها في جمادى الأولى سنة أربع ، فإن قلت : قال الغزالي في ( الوسيط ) ، وتبعه عليه الرافعي : إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات . قلت : هذا غير صحيح ، وقد أنكر عليه ابن الصلاح في ( مشكل الوسيط ) ، وقال : ليست آخرها ، ولا من أواخرها ، وإنما آخر غزواته تبوك ، وهو كما ذكره أهل السير ، وإن أراد أنها آخر غزاة صلى فيها صلاة الخوف فليس بصحيح أيضا ، فقد صلى معه صلاة الخوف أبو بكرة ، وإنما نزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الطائف تدلى ببكرة فكني بها ، وليس بعد غزوة الطائف إلا غزوة تبوك ، ولهذا قال ابن حزم : إن صفة صلاة الخوف في حديث أبي بكرة أفضل صلاة الخوف ; لأنها آخر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها .

                                                                                                                                                                                  قوله : “ فوازينا العدو " أي : قابلنا ، من الموازاة ، وهي المقابلة والمحاذاة ، وأصله من الإزاء بالهمزة في أوله ، يقال : هو بإزائه ، أي : بحذائه ، وقد آزيته إذا حاذيته ، ولا تقل : وازيته ، قاله الجوهري : قلت : فعلى هذا أصل قوله : " فوازينا " فآزينا ، [ ص: 256 ] قلبت الهمزة واوا ، كما أن الواو تقلب همزة في مواضع منها أواقي أصله : وواقي ، قوله : “ فصاففناهم " وفي رواية المستملي والسرخسي " فصاففنا لهم " ، ويروى " فصففناهم " ، قوله : “ يصلي لنا " أي : لأجلنا أو يصلي بنا ، قوله : “ ركعة وسجدتين " وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري مثل نصف صلاة الصبح ، وهذه الزيادة تدل على أن الصلاة المذكورة كانت غير الصبح فتكون رباعية ، وسيأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت صلاة العصر ، وصرح في رواية مسلم في حديث جابر بالعصر ، وفي حديث أبي بكرة بالظهر ، قوله : “ ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل " أي : فقاموا في مكانهم ، وصرح به في رواية بقية عن شعيب عن الزهري عند النسائي .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : هذا الحديث حجة لأصحابنا الحنفية في صلاة الخوف ، وحديث ابن مسعود أيضا رواه أبو داود : حدثنا عمران بن ميسرة ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا خصيف ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، فقاموا صفا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصف مستقبل العدو فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم ، فاستقبل هؤلاء العدو ، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ، ثم سلم ، فقام هؤلاء ، فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ، ثم ذهبوا ، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا " ، ورواه البيهقي أيضا ، وقال : أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ، وخصيف ليس بالقوي . قلت : أبو عبيدة أخرج له البخاري محتجا به في غير موضع ، وروى له مسلم .

                                                                                                                                                                                  وقال أبو داود : كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين مميزا ، وابن سبع سنين يحتمل السماع والحفظ ، ولهذا يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقا وتأدبا ، وخصيف بضم الخاء المعجمة ، وثقه أبو زرعة ، والعجلي ، وأبو معين ، وابن سعد .

                                                                                                                                                                                  وقال النسائي : صالح ، وجعل المازري حديث ابن عمر قول الشافعي ، وأشهب ، وحديث جابر قول أبي حنيفة ، وهو سهو فيهما ; بل أخذ أبو حنيفة وأصحابه وأشهب برواية ابن عمر ، والشافعي برواية سهل بن أبي حثمة .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : ولو فعل مثل رواية ابن عمر ففي صحته قولان ، والصحيح المشهور صحته . قال : وقول الغزالي قاله بعض أصحابنا بعيد ، وغلط في شيئين أحدهما : نسبته إلى بعض الأصحاب ; بل نص عليه الشافعي في ( الجديد ) ، وفي ( الرسالة ) ، وفي الثاني : تضعيفه ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : هم يقولون : قال الشافعي : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وأي شيء يكون أصح من حديث ابن عمر ، وقد خرجته الجماعة .

                                                                                                                                                                                  وقال القدوري في ( شرح مختصر الكرخي ) وأبو نصر البغدادي في ( شرح مختصر القدوري ) : الكل جائز ، وإنما الخلاف في الأولى .

                                                                                                                                                                                  فائدة : قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة ، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عبد البر في ( التمهيد ) : روي في صلاة الخوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوه كثيرة ، فذكر منها ستة أوجه ، الأول : ما دل عليه حديث ابن عمر ، قال به من الأئمة الأوزاعي وأشهب . قلت : قال به أبو حنيفة وأصحابه على ما ذكرنا ، الثاني : حديث صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة ، قال به مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور ، الثالث : حديث ابن مسعود ، قال به أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف ، الرابع : حديث أبي عياش الزرقي ، قال به ابن أبي ليلى والثوري ، الخامس : حديث حذيفة ، قال به الثوري في ( مجيزه ) ، وهو المروي عن جماعة من الصحابة منهم حذيفة وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله ، السادس : حديث أبي بكرة أنه صلى بكل طائفة ركعتين ، وكان الحسن البصري يفتي به ، وقد حكى المزني عن الشافعي أنه لو صلى في الخوف بطائفة ركعتين ، ثم سلم ، فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، ثم سلم ، كان جائزا . قال : وهكذا صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل ، قال ابن عبد البر : وروي أن صلاته هكذا كانت يوم ذات الرقاع ، وذكر أبو داود في ( سننه ) لصلاة الخوف ثمانية صور ، وذكرها ابن حبان في ( صحيحه ) تسعة أنواع ، وذكر القاضي عياض في ( الإكمال ) لصلاة الخوف ثلاثة عشر وجها ، وذكر الثوري أنها تبلغ ستة عشر وجها ، ولم يبين شيئا من ذلك .

                                                                                                                                                                                  وقال شيخنا الحافظ زين الدين في ( شرح الترمذي ) : قد جمعت طرق الأحاديث الواردة في صلاة الخوف فبلغت سبعة عشر وجها ، وبينها ، لكن يمكن التداخل في بعضها ، وحكى ابن القصار المالكي أن [ ص: 257 ] النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرات ، وقال ابن العربي : صلاها أربعا وعشرين مرة ، وبين القاضي عياض تلك المواطن فقال : وفي حديث ابن أبي حثمة ، وأبي هريرة ، وجابر أنه صلاها في يوم ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة ، وفي حديث أبي عياش الزرقي أنه صلاها بعسفان ، ويوم بني سليم ، وفي حديث جابر في غزاة جهينة ، وفي غزاة بني محارب بنخل ، وروي أنه صلاها في غزوة نجد يوم ذات الرقاع ، وهي غزوة نجد ، وغزوة غطفان ، وقال الحاكم في « الإكليل " حين ذكر غزوة ذات الرقاع ، وقد تسمى هذه الغزوة غزوة محارب ، ويقال : غزوة خصفة ، ويقال : غزوة ثعلبة ، ويقال : غطفان ، والذي صح أنه صلى بها صلاة الخوف من الغزوات ذات الرقاع ، وذو قرد ، وعسفان ، وغزوة الطائف ، وليس بعد غزوة الطائف إلا تبوك ، وليس فيها لقاء العدو ، والظاهر أن غزوة نجد مرتان ، والذي شهدها أبو موسى ، وأبو هريرة هي غزوة نجد الثانية لصحة حديثيهما في شهودها .

                                                                                                                                                                                  ومما يستفاد من حديث الباب من قوله "طائفة" أنه لا فرق بين أن تكون إحدى الطائفتين أكثر من الأخرى عددا أو تساوى عددهما ، لأن الطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد ، فلو كانوا ثلاثة ووقع عليهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد ثم يصلي الآخر ، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة على القول بأن أقل الجماعة ثلاثة ، لكن الشافعي قال : أكره أن تكون كل طائفة أقل من ثلاثة ، لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله : "أسلحتهم" ذكره النووي .

                                                                                                                                                                                  ومن ذلك أنهم كانوا مسافرين ، فلو كانوا مقيمين فحكمهم حكم المسافرين عند الخوف ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، ومالك في المشهور عنه ، وعنه لا تجوز صلاة الخوف في الحضر ، وقال أصحابه : تجوز خلافا لابن الماجشون فإنه قال : لا تجوز ، ونقل النووي عن مالك عدم الجواز في الحضر على الإطلاق غير صحيح لأن المشهور عنه الجواز .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية