الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  962 50 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود، والميتة، والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع. فأتاه أبو سفيان، فقال: يا محمد ، إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا; فادع الله لهم! قال الله تعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين إلى قوله: يوم نبطش البطشة الكبرى فالبطشة يوم بدر. وقد مضت الدخان، والبطشة، واللزام وآية الروم

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " اللهم سبعا كسبع يوسف ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: عثمان بن أبي شيبة ، هو عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي ، مولاهم، أبو الحسن الكوفي ، أخو أبي بكر بن أبي شيبة ، والقاسم بن أبي شيبة ، وكان أكبر من أبي بكر . مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: جرير بن عبد الحميد ، وقد مر غير مرة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: منصور بن المعتمر أبو عباس الكوفي .

                                                                                                                                                                                  الرابع: أبو الضحى ، بضم الضاد المعجمة، واسمه مسلم بن صبيح ، بضم الصاد المهملة، وفتح الباء الموحدة، الهمداني الكوفي ، العطار.

                                                                                                                                                                                  الخامس: مسروق بن الأجدع الهمداني، أبو عائشة الكوفي .

                                                                                                                                                                                  السادس: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته كوفيون ما خلا جريرا ، فإنه رازي.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه، ومن أخرجه غيره): أخرجه البخاري في الاستسقاء أيضا عن الحميدي ، وعن سليمان بن حرب ، وعن يحيى ، عن أبي معاوية ، وعن يحيى ، عن وكيع ، وعن محمد بن كثير عن سفيان . وفي التفسير أيضا عن بشر بن خالد . وأخرجه مسلم في التوبة عن إسحاق ، عن جرير ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن أبي سعيد الأشج ، وعن عثمان ، عن جرير ، وعن يحيى بن يحيى ، وأبي كريب .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمود بن غيلان ، وأخرجه النسائي عن بشر بن خالد به، وعن أبي كريب به، وعن محمود بن غيلان .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: " عند عبد الله " ، يعني: ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                  قوله: " لما رأى من الناس " أي قريش ، واللام للعهد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إدبارا " أي عن الإسلام. وفي تفسير الدخان (أن قريشا لما أبطؤوا عن الإسلام ".

                                                                                                                                                                                  قوله: " سبعا " منصوب بفعل مقدر [ ص: 28 ] أي اجعل سنيهم سبعا، أو ليكن سبعا. ويروى سبع بالرفع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي البلاء المطلوب عليهم سبع سنين كالسنين السبع التي كانت في زمن يوسف ، وهي السبع الشداد التي أصابهم فيها القحط، أو يكون المعنى المدعو عليهم قحط كقحط يوسف . ويجوز أن يكون ارتفاعه على أنه اسم كان التامة تقديره: ليكن سبع. وفي الوجه الأول كان ناقصة.

                                                                                                                                                                                  وجاء في رواية " لما دعا قريشا كذبوه، واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ! "

                                                                                                                                                                                  قوله: " سنة " بالفتح القحط، والجدب، قال الله تعالى: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين .

                                                                                                                                                                                  قوله: " حصت كل شيء " بحاء وصاد مهملتين مشددة الصاد، أي استأصلت، وأذهبت النبات، فانكشفت الأرض. وفي المحكم: سنة حصاء: جدبة قليلة النبات، وقيل: هي التي لا نبات فيها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " حتى أكلوا " كذا هو في رواية المستملي ، والحموي ، وعند غيرهما: (حتى أكلنا)، والأول أشبه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " والجيف " بكسر الجيم، وفتح الياء آخر الحروف - جمع الجيفة، وهي جثة الميت، وقد أراح، فهي أخص من الميت; لأنها ما لم تلحقه ذكاة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وينظر أحدكم " ، ويروى " أحدهم "، وهو الأوجه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فأتاه أبو سفيان " ، يعني: صخر بن حرب ، ودل هذا على أن القصة كانت قبل الهجرة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال الله تعالى: فارتقب " ، يعني: لما قال أبو سفيان : إن قومك قد هلكوا; فادع الله لهم! قرأ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين

                                                                                                                                                                                  وكذا في باب: إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط; فإن البخاري أخرج حديث الباب أيضا هناك عن محمد بن كثير ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال: أتيت ابن مسعود . .. الحديث، وفيه " فجاء أبو سفيان ، فقال: يا محمد ، تأمر بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا؟ فادع الله عز وجل! فقرأ: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " .

                                                                                                                                                                                  وأخرج في تفسير سورة الدخان: حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى " عن مسروق قال: دخلت على عبد الله ، فقال: إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم; إن الله قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن قريشا لما غلبوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واستعصوا عليه قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام، والميتة من الجهد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه، وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا!. فدعا ربه، فكشف عنهم، فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر ، فذلك قوله تعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان إلى قوله جل ذكره: إنا منتقمون " .

                                                                                                                                                                                  وأخرج مسلم " عن مسروق قال: جاء إلى عبد الله رجل، فقال: تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين قال: يأتي الناس دخان يوم القيامة، فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله : من علم علما، فليقل به، ومن لا يعلم، فليقل: الله أعلم; فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم; إنما كان هذا أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف . فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد حتى أكلوا العظام. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، استغفر الله لمضر ; فإنهم قد هلكوا، فقال: لمضر ؟ إنك لجريء! قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله: إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون قال: فمطروا. فلما أصابهم الرفاهية قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله تعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون يعني: يوم بدر " . انتهى.

                                                                                                                                                                                  وقد علمت أن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وذلك أن أبا سفيان لما قال: ادع الله لهم - قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين كما في رواية البخاري عن محمد بن كثير الذي ذكرناه. وصرح في رواية مسلم أنه لما دعا الله لها أنزل الله تعالى: إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون فقبل الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فمطروا. فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله تعالى: فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين المعنى: فانتظر يا محمد عذابهم. ومفعول ارتقب محذوف، وهو عذابهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يغشى الناس " صفة للدخان في محل الجر، يعني: يشملهم، ويلبسهم. وقيل: يوم تأتي السماء مفعول فارتقب قوله: هذا عذاب أليم يعني: يملأ ما بين المشرق، والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه، وأذنيه ودبره.

                                                                                                                                                                                  وقوله: هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون كل ذلك منصوب المحل بفعل مضمر، وهو يقولون، ويقولون [ ص: 29 ] منصوب على الحال، أي قائلين ذلك. قوله: إنا مؤمنون موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، قال الله تعالى:أنى لهم الذكرى أي من أين لهم التذكر، والاتعاظ بعد نزول البلاء وحلول العذاب. (و) الحال أنه قد جاءهم رسول بما هو أعظم من ذلك، وأدخل في وجوب الإذكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات البينات من الكتاب المعجز، وغيره من المعجزات ، فلم يذكروا، وتولوا عنه، وبهتوه بأن عداسا غلاما أعجميا لبعض ثقيف هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون، وهو معنى قوله: ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ثم قال: إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون إلى (كفركم). ثم قال: يوم نبطش البطشة الكبرى وهو يوم بدر كما في متن حديث الباب. وعن الحسن : البطشة الكبرى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                  قوله: " فقد مضت " إلى آخره - من كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن دحية : الذي يقتضيه النظر الصحيح حمل أمر الدخان على قضيتين: إحداهما وقعت، وكانت، والأخرى ستقع. (قلت): فعلى هذا هما دخانان:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: الذي يملأ ما بين السماء، والأرض، ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة، وهو كهيئة الدخان، وهيئة الدخان غير الدخان الحقيقي.

                                                                                                                                                                                  والآخر: هو الدخان الذي يكون عند ظهور الآيات، والعلامات ، ويقال: هو من آثار جهنم يوم القيامة. ولا يمتنع إذا ظهرت تلك العلامات أن يقولوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون .

                                                                                                                                                                                  قوله: " واللزام " - اختلف فيه; فذكر ابن أبي حاتم في تفسيره أنه القتل الذي أصابهم ببدر . روي ذلك عن ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، قال القرطبي : فعلى هذا تكون البطشة، واللزام واحدا. وعن الحسن : اللزام يوم القيامة، وعنه أنه الموت. وقيل: يكون ذنبكم عذابا لازما لكم. وفي المحكم: اللزام الحساب. وفي الصحيح عن مسروق ، عن عبد الله قال: " خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر " .

                                                                                                                                                                                  قوله: " وآية الروم " ، وهو أن المسلمين حين اقتتلت فارس ، والروم كانوا يحبون ظهور الروم على فارس ; لأنهم أهل كتاب ، وكان كفار قريش يحبون ظهور فارس ; لأنهم مجوس ، وكفار قريش عبدة أوثان. فتخاطر أبو بكر ، وأبو جهل في ذلك، أي أخرجا شيئا وجعلوا بينهم مدة بضع سنين. فقال صلى الله عليه وسلم: إن البضع قد يكون إلى تسع، أو قال: إلى سبع; فزده في المدة، أو في الخطار. ففعل، فغلبت الروم ، فقال تعالى: الم غلبت الروم يعني: المدة الأولى قبل الخطار. ثم قال: وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين إلى قوله: يفرح المؤمنون بنصر الله يعني: بغلبة الروم فارسا ، وربما أخذوا من الخطار . وقال الشعبي : كان القمار في ذلك الوقت حلالا، والله تعالى أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية