الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  82 24 - حدثنا سعيد بن عفير ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، أن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب ، قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة من الوجه الذي ذكرناه الآن .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم ستة ، الأول : سعيد بن عفير بضم العين المهملة وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء ، وقد مر .

                                                                                                                                                                                  الثاني : ليث بن سعد الإمام الكبير المصري ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عقيل بضم العين وفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره لام ابن خالد الأيلي بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري .

                                                                                                                                                                                  الخامس : حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ، المكنى بأبي عمارة بضم العين القرشي المدني العدوي التابعي ، سمع أباه وعائشة ، قال أحمد بن عبد الله : [ ص: 86 ] تابعي ثقة ، وقال ابن سعد : أمه أم ولد وهي أم سالم وعبيد الله ، وكان ثقة قليل الحديث ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  السادس : عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن في إسناده التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة والسماع ، وفي رواية الأصيلي وكريمة : حدثني الليث حدثني عقيل ، وللبخاري في التعبير : أخبرني حمزة ، ومنها أن نصف رواته مصريون ونصفهم مدنيون ، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري ها هنا عن سعيد بن عفير ، وفي تعبير الرؤيا عن يحيى بن بكير وقتيبة ، ثلاثتهم عن ليث عن عقيل ، وفيه عن أبي جعفر محمد بن الصلت الكوفي ، وفي فضل عمر رضي الله عنه عن عبدان ، كلاهما عن ابن المبارك عن يونس ، وفيه عن علي بن عبد الله ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح ، ثلاثتهم عن الزهري عنه به ، وأخرجه مسلم في الفضائل عن قتيبة به ، وعن حسن الحلواني وعبد بن حميد ، كلاهما عن يعقوب به ، وعن حرملة ، عن ابن وهب ، عن يونس به ، وأخرجه الترمذي في الرؤيا وفي المناقب عن قتيبة به ، وقال : حسن غريب ، وأخرجه النسائي عن قتيبة به ، وعن عبد الله بن سعد عن عمه يعقوب به ، وفي المناقب عن عمرو بن عثمان ، عن الزبيدي ، عن الزهري به ، وأعاده في العلم عن قتيبة .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " بقدح " القدح بفتحتين واحد الأقداح التي هي للشرب فيها ، والقدح بكسر القاف وسكون الدال السهم قبل أن يراش ويركب نصله ، وقدح الميسر أيضا ، والقدح بالكسر ما يقدح به النار ، والقدح المغرفة والمقديح المغرف والقدوح الذباب ، قوله “ الري " بكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف ، مصدر يقال رويت من الماء بالكسر أروي ريا بالكسر ، وحكى الجوهري الفتح أيضا ، وقال ريا وريا ، وروي أيضا مثل رضي رضى وارتويت وترويت كله بمعنى ، وقال غيره : يقال روي من الماء والشراب بكسر الواو ، ويروى بفتحها ريا بالكسر في الاسم والمصدر ، قال القاضي : وحكى الداودي الفتح في المصدر ، وأما في الرواية فعكسه ، تقول : رويت الحديث أرويه رواية بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل ، والرواء من الماء ما يروي ، إذا مددت فتحت الراء وإذا كسرت قصرت ، قلت : الري أصله الروي اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الياء من الواو وأدغمت الياء في الياء ، قوله “ في أظفاري " جمع ظفر ، وقال ابن دريد : الظفر ظفر الإنسان والجمع أظفار ولا تقول ظفر بالكسر وإن كانت العامة قد أولعت به وتجمع أظفار على أظافير ، قال : وقال قوم بل الأظافير جمع أظفور ، والظفر والأظفور سواء ، وأظفار الإبل مناسمها ، وأظفار السباع براثنها .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " بينا " قد مر غير مرة أن أصله بين فأشبعت الفتحة فصارت ألفا ، وقد تدخل عليها ما فيقال بينما ، وقوله " أنا " مبتدأ و " نائم " خبره ، قوله “ أتيت " على صيغة المجهول وهو جواب بينا وعامل فيه ، والأصمعي لا يستفصح إلا طرح إذ وإذا منه كما ذكرناه ، قوله “ بقدح لبن " كلام إضافي يتعلق بأتيت ، قوله “ فشربت " عطف على أتيت ، قوله “ حتى " إما ابتدائية وإما جارة ، فعلى الأول أتى بكسر الهمزة ، وعلى الثاني بفتحها ، وياء المتكلم اسم إن وخبره قوله " لأرى الري " واللام فيه للتأكيد ، وقال بعضهم : اللام جواب قسم محذوف ، قلت : هذا ليس بصحيح ، ليس هنا قسم صريح ولا مقدر ، ولا يصح التقدير وإنما هذه اللام هي اللام الداخلة في خبر إن للتأكيد كما في قولك إن زيدا لقائم ، وقوله أرى إن كان من الرؤية بمعنى العلم يقتضي مفعولين أحدهما هو قوله " الري " والآخر هو قوله " يخرج في أظفاري " وإن كان من الرؤية بمعنى الإبصار لا يقتضي إلا مفعولا واحدا وهو قوله " الري " وقوله " يخرج " حينئذ يكون حالا من اللبن ويكون الضمير فيه راجعا إليه ويجوز أن يكون حالا من الري تجوزا ويكون الضمير راجعا إليه ، قوله “ في أظفاري " وفي رواية ابن عساكر " من أظفاري " وفي رواية البخاري في التعبير " من أطرافي " والكل بمعنى في الحقيقة ، فإن قلت : يخرج من أظفاري ظاهر ، فما معنى قوله " يخرج في أظفاري " ؟ قلت : يجوز أن تكون في ها هنا بمعنى على أي على أظفاري ، كما في قوله تعالى : ولأصلبنكم في جذوع النخل أي عليها ويكون بمعنى يظهر عليها ، والظفر إما منشأ الخروج أو ظرفه ، قوله “ ثم أعطيت " عطف على قوله " فشربت " وهي جملة من الفعل والفاعل ، وقوله " فضلي " كلام إضافي مفعوله الأول ، وقوله عمر بن الخطاب مفعوله الثاني ، قوله “ فما أولته " كلمة ما استفهامية وأولته جملة من الفعل [ ص: 87 ] والفاعل والمفعول وهو الضمير الذي يرجع إلى شرب اللبن الذي يدل عليه قوله " فشربت " قوله “ يا رسول الله " منادى منصوب ، فإن قلت : ما الفاء في قوله " فما أولته " قلت : زائدة ، كما في قوله تعالى : هذا فليذوقوه قوله “ العلم " بالنصب والرفع روايتان ، أما وجه النصب فعلى المفعولية ، والتقدير أولته العلم ، وأما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي المؤول به العلم .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : فيه حذف المفعول من قوله " فشربت " للعلم به ، والتقدير فشربت اللبن ، يعني منه لأنه شرب حتى روي ثم أعطى فضله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وفيه استعمال المضارع موضع المضي وهو قوله " يخرج " وكان حقه أن يقال خرج ، ولكنه أراد استحضار صورة الرؤية للسامعين قصدا إلى أن يبصرهم تلك الحالة وقوعا وحدوثا ، قوله “ ثم أعطيت فضلي " أي ما فضل من اللبن الذي هو في القدح الذي شربت منه ، قوله “ فما أولته " أي فما عبرته ؟ والتأويل في اللغة تفسير ما يؤول إليه الشيء وهاهنا المراد به تعبير الرؤيا ، وفيه تأكيد الكلام بصوغه جملة اسمية وتأكيدها بإن واللام في الخبر وهو قوله " إني لأرى الري " فإن قلت : لم تكن الصحابة منكرين ولا مترددين في إخباره ، فما فائدة هذه التأكيدات ؟ قلت : قوله " أرى الري يخرج في أظفاره " أورثهم حيرة في خروج اللبن من الأظفار ، فأزال تلك الحيرة بهذه التأكيدات ، كما في قوله تعالى : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء لأن ما أبرئ أي ما أزكي أورث المخاطب حيرة في أنه كيف لا ينزه نفسه عن السوء مع كونها مطمئنة زكية ، فأزال تلك الحيرة بقوله : إن النفس لأمارة بالسوء في جميع الأشخاص إلا من عصمه الله ، قوله “ العلم " تفسير اللبن بالعلم لكونهما مشتركين في كثرة النفع بهما وفي أنهما سببا الصلاح ، فاللبن غذاء الإنسان وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم ، والعلم سبب الصلاح في الدنيا والآخرة وغذاء الأرواح ، وقال المهلب : رؤية اللبن في النوم تدل على السنة والفطرة والعلم والقرآن لأنه أول شيء يناله المولود من طعام الدنيا وبه تقوم حياته كما تقوم بالعلم حياة القلوب فهو يناسب العلم من هذه الجهة ، وقد يدل على الحياة لأنها كانت في الصغر ، وقد يدل على الثواب لأنه من نعيم الجنة إذ روي " نهر من اللبن " ، وقد يدل على المال والحلال ، قال : وإنما أوله النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم في عمر رضي الله عنه لصحة فطرته ودينه ، والعلم زيادة في الفطرة ، فإن قلت : رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق ، فهل كان هذا الشراب وما يتعلق به واقعا حقيقة أو هو على سبيل التخيل ؟ قلت : واقع حقيقة ولا محذور فيه إذ هو ممكن ، والله على كل شيء قدير .

                                                                                                                                                                                  بيان البيان : فيه الاستعارة الأصلية وهي قوله " إني لأرى الري " لأن الري لا يرى ولكنه شبه بالجسم وأوقع عليه الفعل ثم أضيف إليه ما هو من خواص الجسم وهو كونه مرئيا .

                                                                                                                                                                                  ومما يستفاد منه فضيلة عمر رضي الله عنه وجواز تعبير الرؤيا ورعاية المناسبة بين التعبير وما له التعبير .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية