الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1468 136 - حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر [ ص: 161 ] رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (لا يلبس القمص) إلى آخره، وهذا الحديث قد مر في آخر كتاب العلم في باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، فإنه أخرجه هناك عن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمغايرة بينهما في بعض المتن، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر هذه الأشياء هناك بصيغة الإفراد، وذكر هنا بصيغة الجمع، وهناك "فإن لم يجد النعلين" وهنا "ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين" وهناك "وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين" وهنا "أسفل من الكعبين" وليس هناك "ولا تلبسوا" إلى آخره، ولنتكلم هنا على ما لم يسبق فيما مضى.

                                                                                                                                                                                  فقوله: "قال يا رسول الله: ما يلبس المحرم" وسيأتي من طريق الليث، عن نافع بلفظ: ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ وفي رواية النسائي من طريق عمر بن نافع، عن أبيه: "ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا" وهذا يدل على أن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام، وقد حكى الدارقطني، عن أبي بكر النيسابوري أن في رواية ابن جريج والليث، عن نافع أن ذلك كان في المسجد.

                                                                                                                                                                                  وأخرج البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن عبد الله بن عون كلاهما عن نافع، عن ابن عمر، قال: "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بذلك المكان" وأشار نافع إلى مقدم المسجد، فذكر الحديث، وظهر من ذلك أنه كان في المدينة.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قد وقع في حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج أنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات.

                                                                                                                                                                                  (قلت): يحمل على التعدد.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس) إلى آخره، قال النووي: قالت العلماء: هذا من بديع الكلام وجزله; لأن ما لا يلبس منحصر، فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر، فقال: "لا يلبس كذا" أي: ويلبس ما سواه.

                                                                                                                                                                                  وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس؛ ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب; لأنه أخصر وأحصر.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: ودليله أنه نبه بالقمص والسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان مخيطا، أو معمولا على قدر البدن، أو العضو، كالجوشن والتبان وغيرهما، ونبه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس، مخيطا كان أو غيره حتى العصابة، فإنها حرام، ونبه بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجورب وغيرها.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان، ولو بتغيير أو زيادة، ولا يشترط المطابقة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ولا تشترط المطابقة" (قلت): ليس على الإطلاق، بل الأصل اشتراطها، ولكن ثم موضع يكون العدول عنها إلى غيره، وهو الأهم، كما في قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ونحو ذلك.

                                                                                                                                                                                  قوله: (ما يلبس المحرم) أي: الرجل المحرم، والدليل على اختصاص الحكم بالرجال توجيه الخطاب نحوهم بقوله: "ولا تلبسوا".

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): واو الضمير يستعمل متنا ولا للقبيلتين على التغليب.

                                                                                                                                                                                  (قلت): نعم، ولكن فيه اختصاص بالمذكرين، والدليل عليه في آخر حديث الليث الآتي في آخر الحج (ولا تنتقب المرأة).

                                                                                                                                                                                  قوله: (ولا يلبس) خبر في معنى النهي.

                                                                                                                                                                                  قوله: (القمص) بضم القاف، وسكون الميم وضمها، جمع قميص، ويجمع أيضا على أقمصة وقمصان.

                                                                                                                                                                                  قوله: (والعمائم) جمع عمامة، يقال: اعتم بالعمامة، وتعمم بها، والسراويلات جمع سراويل، والبرانس جمع برنس، وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به، من ذراعة أو جبة أو ممطر أو غيره.

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري: هي قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البرس -بكسر الباء- وهو القطن، والنون زائدة. وقيل: إنه غير عربي. والخفاف -بكسر الخاء- جمع خف.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إلا أحد) المستثنى منه محذوف تقديره: لا يلبس المحرم الخفين إلا أحد لا يجد نعلين فإنه يلبس الخفين، بشرط أن يقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين، فيكون حينئذ كالنعلين.

                                                                                                                                                                                  وقوله: "لا يجد نعلين" في محل الرفع; لأنه صفة لـ"أحد" قيل: فيه دليل على أن لفظ "أحد" يجوز استعماله في الإثبات خلافا لمن قال: لا يجوز ذلك إلا لضرورة الشعر، والمراد من قوله: "وليقطعهما أسفل [ ص: 162 ] من الكعبين" كشف الكعبين في الإحرام، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عن جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما، وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه.

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم: وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك.

                                                                                                                                                                                  وقيل: إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة.

                                                                                                                                                                                  (قلت): الذي قال لا يعرف عند أهل اللغة هو ابن بطال، والذي قاله هو لا يعرف، وكيف والإمام محمد بن الحسن إمام في اللغة والعربية، فمن أراد تحقيق صدق هذا فلينظر في مصنفه الذي وضعه على أوضاع يعجز عنه الفحول من العلماء، والأساطين من المحققين، وهو الذي سماه (الجامع الكبير) والذي قاله هو الذي اختاره الأصمعي، قاله الإمام فخر الدين.

                                                                                                                                                                                  قوله: (لا تلبسوا) يدخل فيه الإناث أيضا، ذكره ليشمل الذكور والإناث.

                                                                                                                                                                                  قوله: (مسه الزعفران) جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنه صفة لقوله :"شيئا" والزعفران اسم أعجمي، وقد صرفته العرب فقالوا: ثوب مزعفر، وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرة، ويجمع على زعافر. وقال أبو حنيفة: لا أعلمه ينبت شيء منه من أرض العرب. والورس بفتح الواو، وسكون الراء، وفي آخره سين مهملة. وقال أبو حنيفة: الورس يزرع بأرض اليمن زرعا، ولا يكون بغير اليمن، ولا يكون منه شيء بريا، ونباته مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه تفتق، فينفض منه الورس، ويزرع سنة فيجلس عشر سنين أن يقيم في الأرض ينبت ويثمر.

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري: الورس نبت أصفر يكون باليمن يتخذ منه الغمرة للوجه، تقول منه: أورس المكان، وورست الثوب توريسا صبغته بالورس، وملحفة وريسة صبغت بالورس.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بيطار في (جامعه): يؤتى بالورس من الصين، واليمن، والهند، وليس بنبات يزرع -كما زعم من زعم- وهو يشبه زهر العصفر، ومنه شيء يشبه نشارة البابونج، ومنه شيء يشبه البنفسج، ويقال: إن الكركم عروقه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): وهو على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: يحرم على المحرم لبس القميص، ونبه به في الحديث على كل مخيط من كل معمول على قدر البدن، أو العضو، وذلك مثل الجبة والقفازين.

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي: (باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة) ثم قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن يعلى بن أمية، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيا قد أحرم، وعليه جبة، فأمره أن ينزعها" وفي بعض طرقه قميص بدل الجبة، وهي رواية (الموطأ)، وفي رواية "مقطعات" وفي أخرى: "أخلاق" والقصة واحدة، ولا يجب قطع القميص والجبة على المحرم إذا أراد نزعها، بل له أن ينزع ذلك من رأسه، وإن أدى إلى الإحاطة برأسه؛ خلافا لمن قال يشقه، وهو قول الشعبي، والنخعي، ويروى ذلك أيضا عن الحسن، وسعيد بن جبير، وذهب الجمهور إلى جواز نزع ذلك من الرأس، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والحديث حجة لهم، ولو ارتدى بالقميص لا يضره.

                                                                                                                                                                                  الثاني: يحرم عليه السراويل، ولا يجب عليه قطعه عند عدم الإزار كما ورد في الخف، وبه قال أحمد، وهو الأصح عند أكثر الشافعية، قاله الرافعي.

                                                                                                                                                                                  وقال إمام الحرمين والغزالي: إنه لا يجوز لبس السراويل إلا إذا لم يتأت فتقه وجعله إزارا، فإن تأتى ذلك لم يجز لبسه، فإن لبسه لزمه الفدية، قال الخطابي: ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال: يشق السراويل ويتزر به، وفي شرح الطحاوي، فإن لم يجد رداء، فلا بأس أن يشق قميصه، ويرتدي به، وإذا لم يجد الإزار فتق السراويل، فإن لبسه ولم يفتقه لزمه دم.

                                                                                                                                                                                  الثالث: لا يتعمم، قال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معا؛ ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر، قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): مراده أن يجعله على رأسه كلبس القبع، ولا يلزم شيء بمجرد وضعه على رأسه كهيئة الحامل لحاجته، ولو انغمس في الماء لا يضره، فإنه لا يسمى لابسا، وكذا لو ستر رأسه بيده.

                                                                                                                                                                                  الرابع: الخفاف، الشرط في الخفين القطع خلافا لأحمد، فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع، وهو المشهور عنه، وحكي عن عطاء مثله، قال: لأن في قلعهما فسادا، قال الخطابي: يشبه أن يكون عطاء لم يبلغه حديث ابن عمر، وإنما الفساد أن يفعل ما نهت عنه الشريعة، فأما ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بفساد.

                                                                                                                                                                                  قال: والعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلت سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج بلفظ: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين".

                                                                                                                                                                                  (قلت): أجابت الحنابلة عنه بأشياء:

                                                                                                                                                                                  منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن البيهقي روى عن عمرو بن دينار، قال: لم يذكر ابن عباس [ ص: 163 ] القطع.

                                                                                                                                                                                  وقال ابن عمر: "وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" فلا أدري أي الحديثين نسخ الآخر. وروى الدارقطني عن عمرو قال: انظروا أيهما قبل، حديث ابن عمر أو حديث ابن عباس. قال البيهقي: فحملهما عمرو بن دينار على نسخ أحدهما الآخر، قال البيهقي: وبين في رواية ابن عون وغيره عن نافع، عن ابن عمر أن ذلك كان بالمدينة قبل الإحرام، وبين في رواية شعبة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، وجابر بن زيد، عن ابن عباس أن ذلك كان بعرفة، وذلك بعد قصة ابن عمر، وأجاب الشافعي عن هذا في (الأم) فقال: كلاهما حافظ صادق وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس؛ لاحتمال أن يكون عزب عنه، أو شك فيه، فلم يؤده، وإما سكت عنه، وإما أداه فلم يؤد عنه.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قالوا، منهم ابن الجوزي : إن حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه، وأجيب عن هذا بأنه لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضا، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس موقوفا، ولا يشك أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس; لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع، وسالم، بخلاف حديث ابن عباس، فلم يأت مرفوعا إلا من رواية جابر بن زيد عنه، حتى قال الأصيلي: إنه شيخ بصري لا يعرف.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن بعضهم قاسوه على السراويل، ورد بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن بعضهم احتجوا بقول عطاء: إن القطع فساد، والله لا يحب الفساد، وقد أجيب عنه بما ذكرناه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  ومنها ما قاله ابن الجوزي: إن الأمر بالقطع يحمل على الإباحة لا على الاشتراط عملا بالحديثين.

                                                                                                                                                                                  (وأجيب) بأنه تعسف، واستعمال اللفظ في غير موضعه، والأحسن في هذا أن يقال: إن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه قد ورد في بعض طرقه الصحيحة موافقته لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في قطع الخفين. رواه النسائي في سننه، قال: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا أيوب، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ) وهذا إسناد صحيح، وإسماعيل بن مسعود الجحدري وثقه أبو حاتم وغيره، وباقيهم رجال الصحيح، والزيادة من الثقة مقبولة على المذهب الصحيح.

                                                                                                                                                                                  الخامس: الزعفران والورس، وظاهر الحديث أنه لا يجوز لبس ما مسه الورس والزعفران، سواء انقطعت رائحته، وذهب ردعه بحيث لا ينفض، أو مع بقاء ذلك، وفي (الموطأ) أن مالكا سئل عن ثوب مسه طيب، ثم ذهب ريح الطيب منه هل يحرم فيه؟ قال: نعم، لا بأس بذلك ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس. قال مالك: وإنما يكره لبس المشبعات; لأنها تنفض. وذهب الشافعي إلى أنه إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت الرائحة منه لم يجز استعماله، وحكى إمام الحرمين فيما إذا بقي اللون فقط وجهين مبنيين على الخلاف في أن مجرد اللون هل يعتبر؟ قال الرافعي: والصحيح أنه لا يعتبر.

                                                                                                                                                                                  وقال أصحابنا: ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفض فلا بأس بلبسه في الإحرام، وهو المنقول عن سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وطاوس، وقتادة، والنخعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، ومعنى "لا ينفض" لا يتناثر صبغه، وقيل: لا يفوح ريحه، وهما منقولان عن محمد بن الحسن. والتعويل على زوال الرائحة، حتى لو كان لا يتناثر صبغه ولكنه يفوح ريحه، يمنع من ذلك; لأن ذلك دليل بقاء الطيب؛ إذ الطيب ما له رائحة طيبة، وقد روى الطحاوي عن فهد، عن يحيى بن عبد الحميد، عن أبي معاوية، وعن ابن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن أبي معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تلبسوا ثوبا مسه ورس أو زعفران - يعني: في الإحرام - إلا أن يكون غسيلا ).

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو عمر أيضا من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): ما حال هذه الزيادة، أعني قوله: "إلا أن يكون غسيلا"؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): صحيح; لأن رجاله ثقات، وروى هذه الزيادة أبو معاوية الضرير، وهو ثقة ثبت.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قال ابن حزم : ولا نعلمه صحيحا. وقال أحمد بن حنبل: أبو معاوية مضطرب الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يجئ أحد بهذه غيره.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قال الطحاوي : قال ابن أبي عمران: رأيت يحيى بن معين، وهو متعجب من الحماني؛ إذ حدث بهذا الحديث، فقال عبد الرحمن بن صالح الأزدي: هذا [ ص: 164 ] الحديث عندي، ثم وثب من فوره فجاء بأصله، فأخرج منه هذا الحديث عن أبي معاوية، كما ذكره يحيى الحماني، فكتب عنه يحيى بن معين، وكفى لصحة هذا الحديث شهادة عبد الرحمن، وكتابة يحيى بن معين، ورواية أبي معاوية.

                                                                                                                                                                                  وأما قول ابن حزم: "ولا نعلمه صحيحا" فهي نفي لعلمه بصحته، فهذا لا يستلزم نفي صحة الحديث في علم غيره، فافهم.

                                                                                                                                                                                  وقد روى أحمد رحمه الله تعالى في (مسنده) من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حديثا يدل على جواز لبس المزعفر للمحرم إذا لم يكن فيه نفض ولا ردع.

                                                                                                                                                                                  (ومما يستفاد من ظاهر الحديث):

                                                                                                                                                                                  جواز لبس المزعفر والمورس لغير الرجل المحرم; لأنه قال ذلك في جواز السؤال عما يلبس المحرم، فدل على جوازه لغيره.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): أخرج الشيخان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قال شيخنا زين الدين رحمه الله: الجمع بين الحديثين أنه يحتمل أن يقال: إن جواب سؤالهم انتهى عند قوله: أسفل من الكعبين، ثم استأنف بهذا لا تعلق له بالمسؤول عنه، فقال: "ولا تلبسوا شيئا من الثياب" إلى آخره، ثم ذكر حكم المرأة المحرمة. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا الاحتمال فيه بعد، بل الأوجه في الجمع أن المراد من النهي عن تزعفر الرجل أن يزعفر بدنه، فأما لبس الثوب المزعفر لغير المحرم فلا بأس به، والدليل على ذلك ما رواه النسائي من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس ، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزعفر الرجل جلده ، وإسناده صحيح، والحديث الذي ينهى النهي عن مطلق التزعفر، ويحمل المطلق على المقيد الذي فيه بأن يزعفر الرجل جلده، ويؤيد ذلك ما ورد في جواز لبس الثياب المزعفرة والمورسة للرجال فيما رواه أبو داود، وابن ماجه من حديث قيس بن سعد، قال: "أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فوضعنا له ما يتبرد فاغتسل، ثم أتيته بملحفة صفراء، فرأيت أثر الورس عليه" لفظ ابن ماجه، وروى أبو داود من حديث ابن عمر مرفوعا "كان يصبغ بالصفرة ثيابه كلها حتى عمامته" ورواه النسائي، وفي لفظ له: "إن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران" فأصله في (الصحيح) ولفظه: "أما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها".

                                                                                                                                                                                  وجمع الخطابي بأن ما صبغ غزله، ثم نسج فليس بداخل في النهي، ووافقه البيهقي على هذا.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): قد علم أن المحرم قد منع من لبس الثوب المصبوغ بالزعفران أو الورس، فما حكمه إذا توسد عليه أو نام؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): قال أبو يوسف في (الإملاء): لا ينبغي لمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران ولا الورس، ولا ينام عليه; لأنه يصير مستعملا للطيب، فكان كاللبس.

                                                                                                                                                                                  وقال شيخنا زين الدين: اختلف أهل العلم في الورس هل هو طيب أم لا؟ فذكر ابن العربي أنه ليس بطيب، فقال: والورس، وإن لم يكن طيبا فله رائحة طيبة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين تجنب الطيب المحض، وما يشبه الطيب في ملايمة الشم واستحسانه.

                                                                                                                                                                                  وقال الرافعي: هو فيما يقال أشهر طيب في بلاد اليمن، وفي كلام النووي أيضا ما يشعر أنه طيب.

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي: نبه النبي صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران على ما في معناهما مما يقصد به الطيب، فهي حرام على القبيلتين، فيكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ بغير طيب، وأما الفواكه كالأترج، والتفاح، وأزهار البوادي كالشيح، والقيصوم وغيرهما فليس بحرام.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية