الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1816 25 - (حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر؛ لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك - وكان يومه يعمل- فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين سبب نزولها، وعبيد الله بن موسى أبو محمد العبسي الكوفي، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو يروي عن جده أبي إسحاق، واسمه عمرو بن عبد الله.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه أبو داود في الصوم أيضا عن نصر بن علي، وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" ؛ أي: في أول ما افترض الصيام، وبين ذلك ابن جرير في روايته من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا. قوله: " فنام قبل أن يفطر.." إلى آخره، وفي رواية زهير: " كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليله ولا يومه حتى تغرب الشمس"، وفي رواية أبي الشيخ من طريق زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق: " كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يفعلوا شيئا من ذلك إلى مثلها". (فإن قلت): الروايات كلها في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيدا بالنوم وكذا هو في حديث غيره، وقد روى أبو داود من حديث ابن عباس، قال: " كان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة.." الحديث، والمنع في هذا مقيد بصلاة العشاء. (قلت): يحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالبا، والتقييد في الحقيقة بالنوم كما في سائر الأحاديث، وبين السدي وغيره أن ذلك الحكم كان على وفق ما كتب على أهل الكتاب، كما أخرجه ابن حزم من طريق السدي، ولفظه: " كتب على النصارى الصيام، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم، وكتب على المسلمين أولا مثل ذلك، حتى أقبل رجل من الأنصار.." فذكر القصة. ومن طريق إبراهيم التيمي: كان المسلمون في أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب، إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة. قوله: " وإن قيس بن [ ص: 291 ] صرمة" ؛ "قيس" بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة، و"صرمة" بكسر الصاد المهملة وسكون الراء وفتح الميم، هكذا هو في رواية البخاري، وتابعه على ذلك الترمذي، والبيهقي، وابن حبان في (معرفة الصحابة)، وابن خزيمة في (صحيحه)، والدارمي في (مسنده)، وأبو داود في (كتاب الناسخ والمنسوخ)، والإسماعيلي، وأبو نعيم في (مستخرجيهما)، وقال أبو نعيم في (كتاب الصحابة): تأليفه: صرمة بن أبي أنس، وقيل: ابن قيس الخطمي الأنصاري، يكنى أبا قيس، كان شاعرا، نزلت فيه: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الآية، ثم روى بإسناده عن أبي صالح، عن ابن عباس أن صرمة بن أبي أنس أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عشية من العشيات وقد جهده الصوم، فقال له: ما لك يا أبا قيس أمسيت طليخا؟!" الحديث، قال: ورواه جبارة بن موسى، عن أبيه، عن أشعث بن سوار، عن عكرمة، عن ابن عباس، ورواه حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان أن صرمة بن قيس، فذكر نحوه. انتهى. وكذا ذكره أبو داود في (سننه): صرمة بن قيس، وقال ابن عبد البر: صرمة بن أبي أنس، قيس بن مالك بن عدي النجاري، يكنى أبا قيس، وقال بعضهم: صرمة بن مالك، نسبه إلى جده، وهو الذي نزل فيه وفي عمر رضي الله تعالى عنه أحل لكم ليلة الصيام وفي (أسباب النزول) للواحدي: عن القاسم بن محمد أن عمر رضي الله تعالى عنه جاء إلى امرأته فقالت: قد نمت، فوقع عليها وأمسى صرمة بن قيس صائما، فنام قبل أن يفطر.." الحديث، وقال أبو جعفر رضي الله تعالى عنه: أحمد بن نصر الداودي، وابن التين يخشى أن يكون رواية البخاري غير محفوظة، إنما هو صرمة، وأما النسائي؛ فلما ذكره في (كتاب السنن) قال: إن أبا قيس بن عمر، فذكر الحديث، وقال السهيلي: حديث صرمة بن أبي أنس قيس بن صرمة الذي أنزل الله تعالى فيه، وفي عمر رضي الله تعالى عنه أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله: وعفا عنكم فهذه في عمر رضي الله تعالى عنه، ثم قال: وكلوا واشربوا إلى آخر الليلة، فهذه في صرمة بن أبي أنس، بدأ الله بقصة عمر؛ لفضله، فقال: فالآن باشروهن ثم بقصة صرمة فقال: وكلوا واشربوا وعند ابن الأثير من حديث محمد بن إسماعيل بن عياش: أخبرنا أبو عروبة عن قيس بن سعد عن عطاء، عن أبي هريرة: نام ضمرة بن أنس الأنصاري ولم يشبع من الطعام والشراب؛ فنزلت أحل لكم ليلة الصيام الآية، قيل: إنه تصحيف ولم يتنبه له ابن الأثير، والصواب: صرمة بن أبي أنس، وهو مشهور في الصحابة، يكنى أبا قيس، والصواب في ذلك من بين هذه الروايات ما ذكره ابن عبد البر، فمن قال: قيس بن صرمة قلبه، كما أشار إليه الداودي، كما ذكرناه الآن، وكذا قال السهيلي وغيره: إنه وقع مقلوبا في رواية حديث الباب، ومن قال: صرمة بن مالك نسبه إلى جده، ومن قال: صرمة بن أنس حذف أداة الكنية من أبيه، ومن قال: أبو قيس بن عمرو، أصاب في كنيته، وأخطأ في اسم أبيه، وكذا من قال: أبو قيس بن صرمة، وكأنه أراد أن يقول: أبو قيس صرمة، فزيد فيه: " ابن"، فافهم. فبهذا يجمع بين هذه الروايات المذكورة، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أعندك" بكسر الكاف والهمزة للاستفهام. قوله: " قالت: لا" ؛ أي: ليس عندي طعام، ولكن أنطلق فأطلب لك، ظاهر هذا الكلام أنه لم يجئ معه بشيء، لكن ذكر في مرسل السدي: أنه أتاها بتمر، فقال: استبدلي به طحينا واجعليه سخينا، فإن التمر أحرق جوفي، وفي مرسل ابن أبي ليلى: فقال لأهله: أطعموني، فقالت: حتى أجعل لك شيئا سخينا"، ووصله أبو داود من طريق ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد، فذكره مختصرا. قوله: " وكان يومه" بالنصب، أي: وكان قيس بن صرمة في يومه يعمل، أي: في أرضه، وصرح بها أبو داود في روايته، وفي مرسل السدي: " كان يعمل في حيطان المدينة بالأجرة" فعلى هذا فقوله: "في أرضه" إضافة اختصاص. قوله: "فغلبته عيناه" ؛ أي: نام؛ لأن غلبة العينين عبارة عن النوم، وفي رواية الكشميهني: "عينه" بالإفراد. قوله: "خيبة لك" منصوب؛ لأنه مفعول مطلق يجب حذف عامله، وقيل: إذا كان بدون اللام يجب نصبه، وإذا كان مع اللام جاز نصبه، والخيبة: الحرمان، يقال: خاب الرجل؛ إذا لم ينل ما طلبه. قوله: " فلما انتصف النهار غشي عليه" ، وفي رواية أحمد: "فأصبح صائما، فلما انتصف النهار"، وفي رواية أبي داود: " فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه"، وفي رواية زهير عن أبي إسحاق: "فلم يطعم شيئا وبات حتى أصبح صائما حتى انتصف النهار فغشي عليه"، وفي مرسل السدي: " فأيقظته [ ص: 292 ] فكره أن يعصي الله تعالى وأبى أن يأكل"، وفي مرسل محمد بن يحيى، فقال: " إني قد نمت، فقالت له: لم تنم، فأبى، فأصبح جائعا مجهودا"، قوله: " فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" وزاد في رواية زكرياء عند أبي الشيخ: " وأتى عمر رضي الله عنه امرأته وقد نامت، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم". قوله: " فنزلت هذه الآية" ، وقال الكرماني: (فإن قلت): ما وجه المناسبة بينهما وبين حكاية قيس؟ (قلت): لما صار الرفث حلالا، فالأكل والشرب بالطريق الأولى، وحيث كان حلهما بالمفهوم، نزلت بعده: {كلوا واشربوا}؛ ليعلم بالمنطوق تصريحا بتسهيل الأمر عليهم ودفعا لجنس الضرر الذي وقع لقيس ونحوه، أو المراد بالآية هي بتمامها.. إلى آخره، حتى يتناول: كلوا واشربوا، فالغرض من ذكر "نزلت" ثانيا، هو بيان نزول لفظ من الفجر بعد ذلك. انتهى. (قلت): اعتمد السهيلي على الجواب الثاني، وقال: إن الآية نزلت بتمامها في الأمرين معا، وقدم ما يتعلق بعمر رضي الله تعالى عنه؛ لفضله. قوله: " ففرحوا بها" ؛ أي: بالآية، وهي قوله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث ووقع في رواية أبي داود: " فنزلت أحل لكم ليلة الصيام إلى قوله: من الفجر فهذا يبين أن محل قوله: (ففرحوا بها) بعد قوله: الخيط الأسود ووقع ذلك صريحا في رواية زكرياء بن أبي زائدة، ولفظه: " فنزلت: أحل لكم إلى قوله: من الفجر ففرح المسلمون بذلك".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية