الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6638 7045 - حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثني ابن أبي حازم والدراوردي ، عن يزيد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله ، فليحمد الله عليها وليحدث بها ، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان ، فليستعذ من شرها ، ولا يذكرها لأحد ، فإنها لن تضره " [فتح: 12 \ 430 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي قتادة السالف في باب : الرؤيا من الله .

                                                                                                                                                                                                                              وكذا حديث يزيد وهو ابن عبد الله بن أسامة بن الهادي ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("فليتفل " ) -هو بكسر الفاء - وحكى الجوهري الضم أيضا ، وقال : التفل يشبه البزاق ، وهو أقل منه ، أوله البزاق ، ثم التفل ، ثم النفث ، ثم النفخ ، وقال بعضهم : هذا بما يغلط فيه ، فيجعلونه بالثاء ويضمون الفعل المستقبل منه ، والصواب بالتاء والكسر [ ص: 250 ] في المستقبل لا غير . والنفث كالتفل إلا أن النفث نفخ لا بصاق معه ، والتفل معه شيء من الريق .

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف في حديث أبي قتادة أن التفل ثلاثا عن شماله ، والأحاديث وردت مرة بالبصاق ، ومرة بالتفل ، ومرة بالنفث ، والمعنى متقارب كما سلف ، ووجه نفثه إخساء الشيطان كما يتفل الإنسان عند الشيء القذر يراه أو يذكره ، ولا شيء أقذر من الشيطان ، فأمره بالتفل عند ذكره ، وكونه ثلاثا مبالغة في إخسائه وكونه عن الشمال ؛ لأن الشرور كلها تأتي عند العرب من جهته ، ولذلك سميت الشؤمى ، ولذلك كانوا يتشاءمون بما جاء من قبلها من طائر ووحش أخذ إلى ناحية اليمين ، فسمى ذلك بعضهم بارحا ، وكانوا يتطيرون منه ، وسماه بعضهم سانحا وأنه ليس فيه كثير اعتمال من بطش وأخذ وإعطاء وأكل وشرب ، وأصل طريق الشيطان إلى ابن آدم ؛ لرعائه إلى ما يكرهه الله من قبلها .

                                                                                                                                                                                                                              فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وإنما أمر الشارع إذا رأى ما يحب أن لا يحدث بها إلا من يحب ؛ لأن المحب لا يعبرها إلا بخير ، والعبارة لأول عابر ، ولأنه لا يسوؤه ما يسر به صديقه ، بل هو مسرور بما يسره وغير حريص أن يتأول الرؤيا الحسنة شر التأويل ، ولو أخبر بها من لا يحبه لم يأمن أن يأولها شر التأويل ، فربما وافق ذلك وجها من الحق في تأويلها فتخرج كذلك ؛ لقوله - عليه السلام - : "الرؤيا لأول عابر " .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 251 ] فصل :

                                                                                                                                                                                                                              وأما إذا رأى ما يكره فقد أمره الشارع بمداواة ما يخاف من ضرها وتلافيه بالتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان ، ويتفل عن شماله ثلاثا ، ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره .

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : يريد ما كان من الشيطان ، وأما ما كان من الله من خير أو شر (فهو ) واقع لا محالة كرؤيا الشارع في البقر والسيف .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وقوله : ("ولا يذكرها لأحد " ) يدل أنها إن ذكرت فربما أضرت ، وإن كانت من الشيطان كما أن ما ستر له من القول السيئ يضره ، وكذلك ما يريه في المنام في الذي يوسوس به في اليقظة ، فمن عصاه ولم يذكر رؤياه واستعاذ بالله من شره وذكر الله لم يضره ما يكون منه ، وقد قال (أبو ) عبد الملك : إن معنى الحلم الذي من الشيطان : هواه ، ومراده لا أنه يفعل شيئا ، وأمره بالتعوذ والتفل ؛ لأن هذا الفعل يرفع الوهم عنه وللوهم تأثير .

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت : قد سلف من أقسام الرؤيا أنها قد تكون منذرة ومنبهة للمرء على استعداد البلاء قبل وقوعه رفقا من الله بعباده لئلا يقع على غرة فيقتل ، فإذا وقع على مقدمة وتوطين كان أقوى للنفس وأبعد لها من أذى البغتة ، وقد سلف في علم الله إذا كانت الرؤيا الصحيحة من قبل الله (محزنة ) أن تضر من رآها ، فما وجه كتمانها ؟

                                                                                                                                                                                                                              أجاب المهلب : أنه إذا أخبر بالرؤيا المكروهة فيسوء حاله ولم يأمن [ ص: 252 ] أن تفسر له بالمكروه فيستعجل الهم ويتعذب (له ) ، ويترقب وقوع المكروه فيسوء حاله ، ويغلب عليه اليأس من الخلاص من شرها ، ويجعل ذلك نصب عينيه ، وقد كان داواه الشارع من هذا البلاء الذي عجله لنفسه بما أمره به من كتمانها والتعوذ بالله من شرها ، وإذا لم تفسر له بالمكروه بقي بين الطمع والرجاء المجبولة عليه النفس أنها لا تجزع إما لأنها من قبل الشيطان ، أو لأن لها تأويلا آخر على المحبوب ، فأراد - عليه السلام - أن لا تتعذب أمته بانتظارهم خروجها بالمكروه كأن الرؤيا قد يبطؤ خروجها ، وعلى أن أكثر ما يراه الإنسان مما يكرهه فهو من قبل الشيطان ، فلو أخبر بذلك كله لم ينفك دهره دائما من الاهتمام بما لا يؤذيه أكثره ، وهذه حكمة بالغة ، واحتياط على المؤمنين ، فجزاه الله عنا من نبي خيرا .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية