الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2600 2751 - حدثنا بشر بن محمد السختياني ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن الزهري قال : أخبرني سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كلكم راع ومسئول عن رعيته ، والإمام راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 212 ] ومسئولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته " . قال : وحسبت أن قد قال : "والرجل راع في مال أبيه " .
                                                                                                                                                                                                                              [انظر : 893 - مسلم: 1829 - فتح: 5 \ 377]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث حكيم بن حزام : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني . . إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                              وسلف في الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث ابن عمر "كلكم راع . . " بطوله .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              ما احتج به البخاري فيما ترجم عليه في تقديم الدين على الوصية هو قول جميع العلماء إلا أبا ثور ، وما ذكره معلقا أخرجه الترمذي وابن ماجه ، وللحاكم من حديث علي كرم الله وجهه قال : إنكم تقرءون هذه الآية من بعد وصية يوصى بها أو دين [النساء : 11] وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية . وفيه : الحارث الأعور ، ويعضده الإجماع على مقتضاه . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق . وقد تكلم الناس في الحارث ، وقال ابن التين : إنه حديث لا يثبته العلماء بالنقل ، والآية نزلت في عثمان بن طلحة ، قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية فدفع إليه المفتاح ، ذكره الواحدي في "أسبابه " عن مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 213 ] وحديث : "لا صدقة إلا عن ظهر غنى " هذا قدمه مسندا ، وما ذكره عن ابن عباس هو إجماع ، كما قاله ابن التين ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص ، عن شبيب بن غرقدة عن جندب قال : سأل طهمان ابن عباس : أيوصي العبد ؟ قال : لا إلا أن يأذن له أهله .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث : "العبد راع " قدمه مسندا في الصلاة من حديث ابن عمر ، وحديث ابن عمر أخرجه ( . . . ) .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك ، فوجه إدخال حديث حكيم هنا أنه جعله من باب الديون وإن لم يعرفوا بها ; لأنه لما رآه قد سماه له ، ورأى الاستحقاق من حكيم متوجها إلى المال إن رضيه وقبله أجراه مجرى مستحقات الديون . وقال ابن المنير : دخوله هنا من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : زهده في العطية وجعل يد آخذها السفلى تنفيرا عن قبولها ، ولم يرد مثل هذا في تقاضي الدين ، فالحاصل أن قابض الوصية يده السفلى ، وقابض الدين استيفاء لحقه إما أن تكون يده العليا ; لأنه المتفضل ، وإما أن تكون يده السفلى ، هذا أقل حالتيه ، فتحقق تقديم الدين على الوصية بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيهما : ذكره المهلب ، وهو أن عمر : اجتهد أن يوفيه حقه في بيت المال ، وبالغ في خلاصه من عهدته هذا وليس دينا ، ولكن فيه شبه الدين ; لكونه حقا في الجملة -وهذا ما قدمته - قال : والوجه الأول

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 214 ] أقوى (من ) مقصود البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث ابن عمر فوجهه هنا -والله أعلم - أنه لما كان العبد متبرعا في مال سيده صح أن المال للسيد وأن العبد لا ملك له فيه ، فلم تجز وصية العبد بغير إذن سيده كما قال ابن عباس ، وأشبه في المعنى الموصي الذي عليه الدين فلم تنفذ وصيته إلا بعد قضاء دينه ; لأن المال الذي بيده إنما هو لصاحب الدين ومسترعى فيه ومسئول عن رعيته ، فلم يجز له تفويته على ربه بوصية وغيرها إلا أن تبقى منه بعد أداء الدين بقية ، كما أن العبد مسترعى في مال سيده ولا يجوز له تفويته على سيده ، فاتفقا في الحكم لاتفاقهما في المعنى . قال ابن المنير : والحديث أصل يندرج تحته مقصود الترجمة ; لأنه لما تعارض في ماله حقه وحق السيد قدم الأقوى وهو حق السيد ، وجعل (السيد ) مسئولا عنه مؤاخذا بحفظه وكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية ، والدين واجب والوصية تطوع ; وجب تقديمه .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة : البداءة في الآية بالوصية قبل الدين لا يقضي أن يكون مبدأها على الدين ، وإنما يقتضي الكلام أن يكون الدين والوصية يخرجان قبل قسمة الميراث ; لأنه لما قيل : من بعد كذا وكذا . علم أنه من بعد هذين الصنفين . قال تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [الإنسان : 24] أي : لا تطع أحدا من هذين الصنفين . وتقول : مررت بفلان وفلان . ولا توجب

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 215 ] ترتيبا بينهما . قال تعالى : يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [آل عمران : 43] فأمرت بذلك كله ، ولم يقتض أن يكون السجود قبل الركوع ، ولو قلت : مررت بفلان ففلان أو بفلان ثم فلان . اقتضى أن يكون الذي بدأ بتسميته هو الذي مر به أولا ، فلما قال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين [النساء : 11] اقتضى أن تكون القسمة بعدهما ، لا تبدية لأحدهما على الآخر ، نعم فهم بالسنة التي مضت والمعنى أن الدين قبلها ; لأن الوصية إنما هي تطوع يتطوع (به ) الموصي ، وأداء الدين فرض عليه ، والفرض أولى من التطوع .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية