الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4303 [ ص: 213 ] 6 - باب: قوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن الآية [النساء: 19]

                                                                                                                                                                                                                              ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما [ولا تعضلوهن] [النساء: 19]: لا تقهروهن. (حوبا) [النساء: 2]: إثما. تعولوا [النساء: 4] تميلوا. نحلة [النساء: 4] النحلة: المهر.

                                                                                                                                                                                                                              4579 - حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [النساء: 19] قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك. [6948 - فتح: 8 \ 245]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث الشيباني: عن عكرمة ، عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم الآية، قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              تعليق ابن عباس أسنده أبو محمد الرازي من حديث علي بن أبي طلحة عنه به، والضحاك عنه بلفظ: لا تحبسوهن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 214 ] و كرها : بالفتح، والضم قليل بمعنى، والمختار كرها يكره على الشيء، والكره من قبله: المشقة، و(تقهروهن) في بعض النسخ بدله (تنتهروهن) وهي رواية الشيخ أبي الحسن، وقيل: (يحبسوهن) كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              ويروى أن الرجل كان يتزوج المرأة فلا تعجبه فيضارها حتى تفتدي منه. الحوب: الإثم -كما ذكره- وهو ما أسنده أبو محمد الرازي في "تفسيره" عن عكرمة ، عنه. وعبارة غيره أنه الذنب العظيم.

                                                                                                                                                                                                                              وقرئ (حوبا) بفتح الحاء و(حابا)، وما ذكره في تعولوا قاله جماعة، وأسنده ابن المنذر في "تفسيره" عن ابن عباس ، وذكر نحوه مرفوعا أن معناه: تجوروا وقال زيد: أن لا يكثر عيالكم، وبه قال الشافعي ، وأنكره المبرد .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 215 ] وقوله: (النحلة: المهر)، قيل: يعني به: الأزواج، ويروى: أن الولي كان يأخذ الصداق لنفسه، فأمره الله بالدفع إلى النساء. وقيل: كان يجعل البضع صداقا فنهوا عن ذلك، وقيل: نحلة : دينا، وقيل: فرضا مسمى، وقال المبرد : معنى نحلة : أنه كان يجوز أن لا يعطي من ذلك شيئا ففرض الله إياه، وقيل: لا يكون نحلة إلا ما طابت به النفس، فأما ما أكره فلا يكون نحلة.

                                                                                                                                                                                                                              واعترض الإسماعيلي فقال: قوله: نحلة إن كان هذا التفسير من قول أبي عبد الله ففيه نظر، وقد قيل في ذلك غير وجه، ولعل ذكر أقربها منها نحلة، أي: يعطونها على غير عوض من مال يكنز منه لهن في ذلك. قال: وقيل: نحلة : ينحلونها، أي: إيتائهن الصداق ما التزمتم أن تدينوا به وتعتقدوه نحلة.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: هذا التفسير من قول ابن عباس ، كما أسنده أبو محمد الرازي في "تفسيره" من حديث علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النحلة: المهر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ( أبو عبيدة ) في "المجاز": نحلة: عن طيب نفس بالفريضة التي جعل الله لهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزجاج عن بعضهم: هو من الله لهن نحلة أن جعل على الرجال الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئا في الغرم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 216 ] وقال مقاتل : كان الرجل يتزوج بغير مهر: أرثك وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت.

                                                                                                                                                                                                                              وأثر ابن عباس الثاني ذكره في الإكراه بعد، فقال: وقال الشيباني: وحدثني عطاء أبو الحسن السوائي، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ، والسوائي بضم السين وفتحها. وأخرجه الإسماعيلي أيضا من حديث سليمان الشيباني، عن عكرمة ، عن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية إذا تزوج المرأة فمات عنها قبل أن يدخل بها حبستها عصبته أن تنكح أحدا حتى تموت فيرثونها؛ فنزلت، ثم قال: هذه الرواية يخالف معناها حديث أسباط ، يعني: الذي في الباب.

                                                                                                                                                                                                                              وللطبري من حديث عطاء الخراساني وغيره، عن ابن عباس نحوه، ومن حديث محمد بن أبي أمامة سهل بن حنيف ، عن أبيه قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وكان ذلك لهم في الجاهلية، فنزلت. وسمى المرأة عكرمة كبيشة ابنة معن بن عاصم الأوسي، وسمى الواحدي الابن حصنا.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "تفسير مقاتل ": نزلت في (قيس) بن أبي قيس بن الأسلت وفي امرأته هند بنت صبرة وفي الأسود بن خلف الخزاعي في امرأته حيية بنت أبي طلحة بن عبد العزى ، وفي منظور بن سيار الفزاري وفي امرأته مليكة بنت خارجة المزنية تزوجوا نساء آبائهم بعد موت

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 217 ] آبائهم، فأتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلن: يا رسول الله، لم يدخلوا بنا، وما أنفقوا علينا، فنزلت. قال مقاتل : ثم انقطع الكلام.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال: ولا تعضلوهن كان الرجل يضر بامرأته لتفتدي منه، ولا حاجة له فيها، يقول: لا تحبسوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهر ثم استثنى إلا أن يأتين بفاحشة يعني: العصيان البين، وهو النشوز، وقال عكرمة والحسن العرني: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صدقتها، فنهوا عن ذلك، وعن أبي مجلز: كان ذلك في الأنصار. وعن عطاء : كان أهل الجاهلية يحبسون المرأة على الصبي يكون فيهم. وعن مجاهد : كان ابنه الأكبر الذي ليس ابنها أحق بها، أو ينكحها غيره. وعن الزهري وأبي مجلز: كان هذا في حي من الأنصار، كان الرجل إذا توفي وخلف امرأة ألقى عليها وليه رداء فلا تقدر أن تتزوج.

                                                                                                                                                                                                                              قال غيرهما: ويتزوجها بغير مهر، وربما ضارها، فلا تقدر أن تتزوج حتى تفتدي منه، فنزلت. والمعنى: لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن، فتكونوا أزواجا لهن. وقيل: لا تتزوجوهن لترثوهن كرها، فالمكروه العقد الموجب له. وقال السدي : كان الرجل يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، ويترك زوجة، فإن سبق وارث البيت فألقى عليها ثوبه فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو ينكحها فيأخذ مهرها، فإن سبقت فذهبت إلى أهلها فهي أحق بنفسها.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن زيد : كانت الوراثة في أهل يثرب، يموت الرجل، فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه، لا تستطيع أن تمتنع، فإن كان صغيرا حبست

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 218 ] عليه حتى يكبر، فإن شاء أصابها، وإن شاء فارقها. وعن مقسم : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها، فجاء رجل فألقى عليها ثوبه كان أحق الناس بها. وقال ( أبو عبيدة ) في "المجاز" فممن تزوج امرأة أبيه فولد له منها: الأشعث بن قيس ، تزوج أبوه قيس بن سعد (بنت) امرأة أبيه معدي كرب فولدت له الأشعث ، وأبو عمرو بن أمية خلف على العامرية امرأة أبيه فولدت له أبا معيط.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأزهري : كان الرجل إذا مات وله امرأة وولد من غيرها ذكر يقول: أنا أحق بامرأته فيمسكها على العقد الذي كان عقده أبوه ليرثها [و] ما ورثته من أبيه، فأعلم الله أن ذلك حرام. وعند الطبري عن ابن عباس وابن شهاب : كانوا يعضلون أياماهن وهن كارهات للعضل حتى يمتن فيرثوهن أموالهن.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن زيد : كان العضل بمكة: ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها أن لا توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها، فإذا خطبها الخاطب، فإن أعطته -أو قال: أرضته- أذن لها

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 219 ] وإلا عضلها. وأولى الأقوال بالصحة -كما قال أبو جعفر - قول من قال: هو الزوج الكاره لصحبة المرأة المضيقة عليها.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في الفاحشة، هنا، فعن الحسن وغيره: هو الزنا. وسلف أنه النشوز، والأولى -كما قال أبو جعفر - أنه يعني به: كل فاحشة من بذاء اللسان على الزوج أو أذى له، يأتي بمعنى الفواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة بينة، بظاهر الكتاب والسنة، وهو قوله في رواية جابر ، "فإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح".

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن عمر زيادة: "ولا يعصينكم في معروف"، وهذا يبين فساد قول من قال: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة : منسوخ بالحدود؛ لأن الحدود حق الله على من زنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج ما آتاها يحق لزوجها، كما عضله إياها إذا نشزت لتفتدي منه (حق) له، وليس أحدهما يبطل حق الآخر، وقد سلف العضل في سورة البقرة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية