الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4831 5123 - حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عراك بن مالك ، أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته ، أن أم حبيبة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنا قد تحدثنا أنك ناكح درة بنت أبي سلمة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أعلى أم سلمة ؟ لو لم أنكح أم سلمة ما حلت لي ، إن أباها أخي من الرضاعة " . [انظر : 5101 - مسلم: 1449 - فتح: 9 \ 176 ] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في عرض عمر حفصة -لما تأيمت من خنيس بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي بالمدينة - على عثمان ثم الصديق ثم خطبها - صلى الله عليه وسلم - ، وقد سلف في المغازي ، ويأتي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 373 ] وحديث أم حبيبة : إنا قد تحدثنا أنك تنكح درة بنت أبي سلمة . . الحديث ، وقد سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وحديث ابن عمر ذكره الحميدي وأبو مسعود في مسند أبي بكر ، لما انفرد به معمر عن الزهري ، من قول أبي بكر لعمر : إني علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها ، وذكره خلف وابن عساكر في مسند عمر لقوله : خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنكحتها إياه .

                                                                                                                                                                                                                              ولما أخرجه الطرقي في مسند أبي بكر قال : قد أخرجت الأئمة أصحاب المسانيد هذا الحديث من عهد أحمد بن حنبل إلى زماننا في "مسنده " ، لقوله السالف أنه ذكرها ، وذكر الدارقطني أن حفصة تأيمها من ابن حذافة أنه طلقها .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر أبو عمر وغيره أنه توفي عنها من جراحة أصابته بأحد ، وعلى هذين القولين يحمل قول من قال : تزوج حفصة بعد ثلاثين شهرا من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                              ورواية من روى بعد سنتين في عقب بدر ، ورواية من روى توفي زوجها بعد خمسة وعشرين شهرا .

                                                                                                                                                                                                                              وخنيس بضم الخاء المعجمة ثم نون مفتوحة ثم مثناة تحت ساكنة ثم سين مهملة ، وقال ابن طاهر : قال يونس ، عن الزهري : بفتح الخاء وكسر النون . وكان معمر بن راشد يقوله : بفتح الحاء المهملة ثم باء موحدة مكسورة ثم مثناة تحت ثم شين معجمة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 374 ] قال الجياني : وروي أن معمرا كان يصحف في هذا الاسم فيقول : حبيش بن حذافة ، فرد عليه : خنيس فقال : لا بل هو حبيش .

                                                                                                                                                                                                                              قال الدارقطني : وقد اختلف على عبد الرزاق عن معمر ، فروي عنه خنيس بالسين المهملة على الصواب ، وروي عنه : حبيش أو خنيس بالشك ، وذكره البخاري وجماعات بالمهملة ، والخاء على الصواب .

                                                                                                                                                                                                                              أما فقه الباب فهو ظاهر لما ترجم له من عرض الرجل وليته ابنته وغيرها على الرجل الصالح ولا نقص عليه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن من عرض عليه ما فيه الرغبة فله النظر والاختيار ، وعليه أن يخبر بعد ذلك بما عنده ; لئلا يمنعها من غيره ; لقول عثمان بعد ليال : قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الاعتذار اقتداء بعثمان في مقالته هذه ، ولم يقل أبو بكر : لا أريد التزويج ، وقد كان يريده حين قال : لو تركها لنكحتها ، ولم يقل : نعم ، ولا لا .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الرخصة أن يجد الرجل على صديقه في الشيء ، ويسأله ، فلا يجيب إليه ، ولا يعتذر بما يعذر به ; لأن النفوس جبلت على ذلك ، لا سيما إذا عرض عليه ما فيه الغبطة له .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (وكنت أوجد عليه -يعني على الصديق - من عثمان ) سببه أن الصديق لم يرد عليه الجواب ، بل تركه على الرقيب ; ولأنه أخص بعمر منه بعثمان ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - آخى بينهما ، فكانت موجدته عليه أكثر ; لثقته به ، وإخلاصه له .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 375 ] وفي بعض الروايات أن عمر شكى عثمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : "ينكح حفصة خير من عثمان ، وينكح عثمان خيرا من حفصة " فكان كذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : كتمان السر ، فإن أظهره الله أو أظهره صاحبه جاز للذي أسر إليه إظهاره ، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أظهر تزويجها أعلم أبو بكر بما كان أسر إليه منه ، وكذلك فعلته فاطمة - رضي الله عنها - في مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أسر إليها أنها أول أهله لحاقا به فكتمته حين توفي ، وأسر - صلى الله عليه وسلم - إلى حفصة تحريم مارية ، فأخبرت حفصة عائشة بذلك ، ولم يكن الشارع أظهره ، فذم الله فعل حفصة ، وقبول عائشة لذلك فقال : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما . أي : مالت ، وعدلت عن الحق .

                                                                                                                                                                                                                              وفي قول أبي بكر لعمر بعد تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها ، لعلك وجدت علي ، دليل على أن الرجل إذا أتى إلى أخيه بما لا يصلح أن يؤتى إليه من سوء المعاشرة ، أن يعتذر ويعترف ، وأن الرجل إذا وجب عليه الاعتذار من شيء وطمع بشيء يقوي حجته أن يؤخر ذلك حتى يظفر ببغيته ليكون أبرأ له عند من يعتذر إليه .

                                                                                                                                                                                                                              وفي قول عمر - رضي الله عنه - له دليل على أن الإنسان يحتج بالحق على نفسه وإن كان عليه فيه شيء .

                                                                                                                                                                                                                              والمعنى الذي أسر أبو بكر عن عمر ما أخبره به الشارع هو أنه خشي أبو بكر أن يذكر ذلك لعمر ثم يبدو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -[الإعراض ] عن نكاحها ، فيقع في قلب عمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما وقع في قلبه من الصديق .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 376 ] وفي قول أبي بكر لعمر : كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها . فيه دلالة أنه جائز للرجل أن يذكر لأصحابه ، ولمن يثق به أنه يخطب امرأة قبل أن يظهر خطبتها ، وقول الصديق : لم أكن لأفشي سره ، يدل أنه من ذكر امرأة قبل أن يظهر خطبتها ، فإن ذكره في معنى السر ، وإن إفشاء السر وغيره في النكاح أو غيره من المباح لا يجوز ، وكان إسراره - صلى الله عليه وسلم - تزويج حفصة للصديق على سبيل المشورة ، أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم قوة إيمان الصديق وأنه لا يتغير لذلك لكون ابنته عنده ، وكتمان ذلك خشية أن يبدو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاحها أمر فيقع في قلب عمر ما وقع في قلبه لأبي بكر كما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن الصديق لا يخطب امرأة علم أن صديقه يذكرها لنفسه ، وإن كان لم يركن إليه لما يخاف من القطيعة بينهما ، ولم تخف القطيعة بين غير الإخوان ; لأن الاتصال بينهما ضعيف غير اتصال الصداقة في الله .

                                                                                                                                                                                                                              وفي قول الصديق : لو تركها تزوجتها ) . دليل على أن الخطبة إنما تجوز بعد أن يتركها الخاطب .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الرخصة في تزويج من عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها خطبة ، أو أراد أن يتزوجها . ألا ترى قول الصديق : لو تركها تزوجتها .

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء في خبر آخر الرخصة في نكاح من عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها النكاح ولم يدخل بها ، وأن الصديق كرهه ورخص فيه عمر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى داود بن أبي هند عن عكرمة قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من كندة يقال لها قتيلة ، فمات ولم يدخل بها ولا حجبها ، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل ، فغضب أبو بكر وقال : تزوجت امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال عمر : ما هي من نسائه ، ما دخل بها ، ولا حجبها ،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 377 ] ولقد ارتدت مع من ارتد . فسكت
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن الأب تخطب إليه بنته ، والثيب كالبكر ، ولا تخطب إلى نفسها ، وأنه يزوجها ، وفيه فساد قول من قال : إن للمرأة البالغة المالكة أمرها تزويج نفسها ، وعقد النكاح عليها دون وليها ، وإبطال قول من قال : للثيب البالغة إنكاح من أحبت دون وليها ، وسيأتي إيضاحه في باب : لا نكاح إلا بولي ، وفي تركه أن يأمره باستئمارها -ولم يجئ عن عمر أن استأمرها - دليل على أن للرجل أن يزوج ابنته الثيب من غير أن يستأمرها ، إذا علم أنها لا تكره ذلك ، وكان الخاطب لها كفئا ; لأن حفصة لم تكن لترغب عن سيد الأكفاء ، وأغنى علم عمر بها عن استئمارها .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة :

                                                                                                                                                                                                                              معنى قوله : (تأيمت حفصة ) . صارت غير ذات زوج ، بموت زوجها عنها ، والعرب تدعو كل امرأة لا زوج لها ، وكل رجل لا امرأة له أيما .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية