الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1156 ص: فإن احتج محتج بالتبكير بها بما حدثنا سليمان بن شعيب ، قال: حدثنا بشر بن بكر ، قال: حدثني الأوزاعي ، قال: حدثني أبو النجاشي ، قال: حدثني رافع بن خديج قال: "كنا نصلي العصر مع النبي -عليه السلام- ثم ننحر الجزور فنقسمه عشر قسم، ثم نطبخ ونأكل لحما نضيجا قبل أن تغيب الشمس" .

                                                [ ص: 494 ] قيل له: قد يجوز أن يكون كانوا يفعلون ذلك بسرعة عمل، وقد أخرت العصر، فليس في هذا الحديث عندنا حجة على من يرى تأخير العصر ، وقد ذكرنا في باب مواقيت الصلاة في حديث بريدة -رضي الله عنه- أن رسول الله -عليه السلام- لما سئل عن مواقيت الصلاة "صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة نقية، ثم صلاها في اليوم الثاني والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان أخرها في اليوم الأول" .

                                                فكان قد أخرها في اليومين جميعا ولم يعجلها في أول وقتها كما فعل في غيرها؛ فثبت بذلك أن وقت العصر الذي ينبغي أن يصلى فيه، هو ما ذهب إليه من ذهب إلى تأخيرها، لا ما ذهب إليه الآخرون.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا إيراد من الخصم بالحديث المذكور تقريره أن يقال: إنكم ادعيتم استحباب تأخير العصر، وأقمتم عليها براهن وأجبتم عما جاء من الأخبار الدالة على التعجيل بها فما تقولون في حديث رافع بن خديج ؟ فإنه أخبر أنهم كانوا يصلون العصر مع النبي -عليه السلام-، ثم ينحرون الإبل ويقسمون لحمه، ثم يطبخون ذلك، ويأكلون لحما نضيجا مستويا قبل غروب الشمس؛ فهذا أدل دليل على استحباب تعجيل العصر ؛ لأن نحر الإبل وسلخه وتقسيم لحمه عشر قسم، ثم طبخه نضيجا والأكل منه يقتضي ساعة مديدة، فلو كان -عليه السلام- يؤخرها لم تلحق هذه الأشياء بعد صلاته قبل غروب الشمس، وهذا معلوم بالعقل.

                                                فأجاب الطحاوي بأنه قد يجوز أن يكون فعلهم هذا كله بالسرعة والاستعجال، والحال أن العصر قد أخرت عن أول وقتها، وهذا أيضا لا ينكر عقلا، ألا ترى أن من عادة الملوك ومن يحذو حذوهم إذا اشتهوا أنواعا من الأطعمة على غير العادة فينهض من يتولى أمر طعامهم من الساعة الراهنة ويذبح غنما أو بقرا أو فرسا أو طيرا على حسب الاشتهاء فيجهز منها أنواع الأطعمة ويحضرها بين يدي الملك وكل ذلك في وقت يسير جدا وذلك بمفعول الآلات والغرض وسرعة العمل، والغرض من ذلك أن هذا أمر لا ينكر لا عقلا ولا عادة.

                                                [ ص: 495 ] وجواب آخر أنه يمكن أن يكون ما أخبره رافع بن خديج لأجل عذر عرض في ذلك اليوم، فلذلك يكون -عليه السلام- قد بكر بالعصر، أو يكون ذلك في أيام الصيف؛ لأن أيامها طويلة.

                                                وأخرج الحديث المذكور عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني صاحب محمد بن الحسن الشيباني ، عن بشر بن بكر التنيسي ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن أبي النجاشي واسمه عطاء بن صهيب الأنصاري مولى رافع بن خديج ، من رجال الصحيحين.

                                                عن رافع بن خديج .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا محمد بن مهران الرازي ، قال: ثنا الوليد بن مسلم ، قال: ثنا الأوزاعي ، عن أبي النجاشي ، قال: سمعت رافع بن خديج يقول: "كنا نصلي العصر مع رسول الله -عليه السلام-، ثم تنحر الجزور، فتقسم عشر قسم، ثم تطبخ فنأكل لحما نضيجا قبل مغيب الشمس" .

                                                حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال: أنا عيسى بن يونس وشعيب بن إسحاق الدمشقي ، قالا: ثنا الأوزاعي بهذا الإسناد غير أنه قال: "كنا ننحر الجزور على عهد رسول الله -عليه السلام- بعد العصر " ولم يقل: كنا نصلي معه.

                                                قوله: (الجزور) بفتح الجيم وهو البعير ذكرا كان أو أنثى إلا أن اللفظة مؤنثة، تقول: هذه الجزور وإن كان مذكرا، والجمع جزر وجزائر.

                                                ويستفاد منه: أن المستحب في الإبل النحر كما أن المستحب في البقر والغنم الذبح ، ويستعمل النحر بمعنى الذبح كما في قول جابر -رضي الله عنه-: "نحرنا الفرس على عهد رسول الله -عليه السلام-" . والفرس لا تنحر، وإنما هو يذبح، والذبح: قطع اللبة والأوداج، والنحر: الطعن في الصدر.

                                                [ ص: 496 ] قوله: (فثبت بذلك) أي: بما قلنا أن وقت العصر الذي ينبغي أن يصلى فيه هو ما ذهب إليه من ذهب إلى تأخيرها، وهم من الصحابة: علي وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم-، ومن التابعين: محمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، وطاوس بن كيسان ، وأبو حنيفة -رضي الله عنهم-.

                                                ومن بعد التابعين: أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وزفر بن الهذيل ، وآخرون.

                                                قوله: (لا ما ذهب إليه الآخرون) وأراد بهم: عبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وروي ذلك عن أنس وعائشة -رضي الله عنهم- .




                                                الخدمات العلمية