الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4345 4346 4347 4348 4349 [ ص: 386 ] ص: وأنكر هؤلاء جميعا الذين أباحوا العزل ما في حديث جدامة مما روت عن رسول الله -عليه السلام- من قوله: "إنه الوأد الخفي"، ورووا عن رسول الله -عليه السلام- إنكار ذلك القول على من قاله، وذكروا في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله (ح).

                                                وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود ، عن هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي رفاعة ، عن أبي سعيد الخدري: " أن رسول الله -عليه السلام- أتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل وأشتهي ما يشتهي الرجال، فإن اليهود يقولون: هي الموءودة الصغرى، فقال رسول الله -عليه السلام-: كذبت يهود، لو أن الله أراد أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه".

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل ، قال: ثنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي مطيع بن رفاعة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا يونس ، قال: ثنا ابن وهب ، قال: حدثني عياش بن عقبة الحضرمي ، عن موسى بن وردان ، عن أبي سعيد الخدري قال: "بلغ رسول الله -عليه السلام- أن اليهود يقولون: إن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال رسول الله -عليه السلام-: كذبت يهود، وقال رسول الله -عليه السلام- لو أفضيت لم يكن إلا بقدر".

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا عياش الرقام ، قال: ثنا عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، ثنا محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل ، عن أبي سعيد قال: " أقمت جارية لي بسوق بني قينقاع، ، فمر بي يهودي فقال: ما هذه الجارية؟ قلت: جارية لي، قال: أكنت تصيبها؟ قلت: نعم، قال: فلعل في بطنها منك سخلة؟ قال: قلت: إني كنت أعزل عنها، قال: تلك الموءودة الصغرى، قال: فأتيت النبي -عليه السلام- فذكرت ذلك له، فقال: كذبت يهود كذبت يهود". .

                                                [ ص: 387 ] فهذا أبو سعيد حكى عن النبي -عليه السلام- إكذاب من زعم أن العزل موءودة. .

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهؤلاء إلى أهل المقالة الثالثة الذين أباحوا العزل مطلقا.

                                                وقوله: "الذين أباحوا العزل" بدل من قوله: "هؤلاء".

                                                وقوله: "ما في حديث جدامة" في محل النصب؛ لأنه مفعول لقوله: "أنكر هؤلاء"، والحاصل أنهم أنكروا خبر جدامة بنت وهب الذي يخبر أن العزل هو الوأد الخفي، وقالوا: يرده خبر أبي سعيد الخدري، حيث يخبر في حديثه عن النبي -عليه السلام- أنه أكذب من زعم أن العزل هو الوأد الخفي.

                                                وقد قال ابن حزم ها هنا بعكس هذا، حيث يقول: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة، برهان ذلك حديث جدامة، قال: وهو في غاية الصحة. قال: واحتج من أباحه بخبر أبي سعيد الذي فيه: "لا عليكم أن لا تفعلوا" قال: وهذا إلى النهي أقرب، وكذا قاله ابن سيرين. واحتجوا بتكذيب النبي -عليه السلام- قول يهود، وبأخبار أخر لا تصح، ويعارضها كلها خبر جدامة، وقد علمنا بيقين أن كل شيء أصله الإباحة حتى ينزل التحريم، فصح أن خبر جدامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك أنها قبل البعث، وبعد البعث وهذا أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر -عليه السلام- أنه الوأد الخفي والوأد محرم، فقد نسخ الإباحة المتقدمة، وبطل قول من ادعى غيره. انتهى.

                                                قلت: قال الطحاوي في غير هذا الموضع: هذا جواب عما ذكره ابن حزم، وهو أنه يحتمل أن خبر جدامة لما كان عليه الناس من موافقة أهل الكتاب ما لم يحدث الله -عز وجل- ناسخه، ثم إن الله -عز وجل- أعلمه بكذبهم، وأن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك، فأعلم أمته -عليه السلام- بكذبهم وأباح لهم العزل على ما في حديث أبي سعيد، وأن الله -عز وجل- إذا أراد شيئا لا يمكن وقوع غيره، وبمعناه قال أبو الوليد بن رشد .

                                                وقال ابن العربي: خبر جدامة مضطرب، قال: وقد قال قوم: إن ذلك كان قبل أن يبين الله له جواز ذلك، فكان يتبع اليهود فيما لم يتبين له فيه شرع، وهذا

                                                [ ص: 388 ] سقط عظيم؛ فإنه إنما كان يحب موافقتهم فيما لم ينزل عليه فيه شيء مما لم يكن من كذبهم وتبديلهم، وقد صرح ها هنا -عليه السلام- بقوله: "كذبت يهود" فكيف يصح أن يكون معهم على كذبهم ويخبر به ثم يكذبهم فيه؟! هذا محال عقلا لا يجوز على الأنبياء -عليهم السلام-.

                                                فإن قيل: ذكروا أن جدامة أسلمت عام الفتح فحينئذ يكون حديثها متأخرا، فيكون ناسخا لحديث أبي سعيد وغيره.

                                                قلت: ذكروا هذا، وذكروا أنها أسلمت قبل الفتح، قال عبد الحق: هو الصحيح، ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد من خمس طرق:

                                                الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير الطائي ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامري المدني -وكلهم ثقات أئمة كبار- وهو يروي عن أبي رفاعة، ويقال له: رفاعة أيضا، ويقال له أيضا: أبو مطيع بن عوف أحد بني رفاعة بن الحارث، وقد وقع الاسمان في رواية الطحاوي كما ترى، وهما: أبو رفاعة وأبو مطيع بن عوف وهو أبو مطيع بن رفاعة .

                                                وقال الحافظ المنذري: قد اختلف على يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث، فقيل: عنه، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن جابر بن عبد الله .

                                                وأخرجه الترمذي والنسائي .

                                                وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي رفاعة ، عن جابر .

                                                وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن رفاعة .

                                                [ ص: 389 ] وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي مطيع بن رفاعة .

                                                وقيل فيه: عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة .

                                                قلت: المذكور في حديث أبي سعيد: عن رفاعة، وعن أبي رفاعة، وعن أبي مطيع ، عن رفاعة .

                                                أما عن رفاعة، فأخرجه أبو داود: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبان، قال: نا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه، أن رفاعة حدثه، عن أبي سعيد الخدري أن رجلا قال: "يا رسول الله، إن لي جارية وأنا أعزل عنها، فأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل موءودة صغرى، قال: كذبت يهود؛ لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه".

                                                وأما عن أبي رفاعة فقد أخرجه الطحاوي من طريقين:

                                                أحدهما: ما ذكر.

                                                والثاني: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي رفاعة ، عن أبي سعيد الخدري ... إلى آخره.

                                                وأخرجه النسائي: أيضا نحوه فقال: عن أبي رفاعة .

                                                وأما عن أبي مطيع بن رفاعة فأخرجه الطحاوي أيضا وهو الطريق الثالث عن إبراهيم بن مرزوق ، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري ، عن علي بن المبارك الهنائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي مطيع بن رفاعة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله -عليه السلام- مثله.

                                                [ ص: 390 ] وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات أبيه: ثنا أبي قال: ثنا وكيع، نا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي مطيع بن رفاعة ، عن أبي سعيد الخدري قال: "قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، -قال أبي: وكان في كتابنا: أبو رفاعة بن مطيع، فغيره وكيع وقال: عن أبي مطيع بن رفاعة- فقال النبي -عليه السلام-: "كذبت يهود، إن الله لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه".

                                                وأخرجه النسائي وفي روايته: أبو مطيع بن عوف الأنصاري ، عن أبي سعيد .

                                                الطريق الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن عياش - بتشديد الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة - بن عقبة الحضرمي ، عن موسى بن وردان القرشي العامري المصري- بن العاص مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، عن أبي سعيد .

                                                وهذا إسناد مصري صحيح، ورواته كلهم ثقات مصريون.

                                                وأخرجه البزار في "مسنده": نا عبدة بن عبد الله، أنا زيد بن الحباب، أنا عياش بن عقبة الحضرمي، حدثني موسى بن وردان ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "يا رسول الله -عليه السلام-، إن اليهود يقولون: إن العزل: الموءودة الصغرى، فقال: كذبت يهود" ولا نعلم روى موسى بن وردان عن أبي سعيد إلا هذا الحديث، وموسى بن وردان مدني صالح الحديث، وموسى بن وردان روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وإنما روى عنه محمد بن أبي حميد أحاديث منكرة، فأما هو فلا بأس به.

                                                [ ص: 391 ] قلت: موسى بن وردان مصري ولكن أصله مدني، والبزار إنما قال: مدني باعتبار أصله، ولكن عداده في المصريين.

                                                الطريق الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن الوليد الرقام شيخ البخاري وأبي داود ، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق المدني ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث القرشي التيمي المدني ، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعن أبي أمامة أسعد -أو سعيد- بن سهل بن حنيف الأنصاري، كلاهما عن أبي سعيد الخدري .

                                                وأخرجه البزار أيضا في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا سلمة بن الفضل، نا الحجاج بن أرطاة ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سبايا بني المصطلق، فأصابني شيء منها -أو شيء منهم- فكنت أعزل عنها لأبيعها، فلقيني رجل من اليهود فقال: ما هذا يا أبا سعيد، أتبيعها؟ قلت: نعم، قال: فلعلك تبيعها وفي بطنها نسمة منك؟

                                                قلت: إني كنت أعزل عنها، فقال: تلك الموءودة الصغرى، فأتيت رسول الله -عليه السلام-أحسبه قال-: فذكرت له ذلك، فقال -عليه السلام-: كذبت يهود، كذبت يهود".


                                                وحدثنا يوسف بن موسى، ثنا سلمة بن الفضل، نا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي -عليه السلام- مثل ذلك.

                                                وحديث أبي إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد أصح من حديث الحجاج؛ لأن الحجاج عندي لم يسمع من محمد بن إبراهيم .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": نا ابن نمير ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل عنهما

                                                [ ص: 392 ] جميعا، عن أبي سعيد الخدري قال: "لما أصبنا سبي بني المصطلق استمتعنا من النساء وعزلنا عنهن، ثم إني وقعت على جارية في سوق بني قينقاع، فمر بي رجل من يهود فقال: ما هذه الجارية ... " إلى آخره نحو رواية الطحاوي .

                                                قوله: "وأشتهي ما يشتهي الرجال" أي ما يشتهيه الرجال، وأراد به الجماع.

                                                قوله: "هي الموءودة الصغرى" أي العزل هو الموءودة الصغرى، والموءودة الكبرى هي أن تدفن البنت وهي حية، وإنما سمي العزل الموءودة الصغرى؛ لأنه بمنزلة الولد إلا أنه خفي؛ لأن من يعزل عن امرأته إنما يعزل هربا من الولد، وإنما أنث الضمير وإن كان يرجع إلى العزل باعتبار الموءودة.

                                                قوله: "لو أفضيت لم يكن إلا بقدر". معناه: لو باشرته وجامعته لم يكن الولد إلا بقدر من الله تعالى، وهو من قولك: أفضى الرجل إلى امرأته إذا باشرها وجامعها.

                                                قوله: "بسوق بني قينقاع". هو سوق مشهور من أسواق العرب، وفي "المطالع": بني قينقاع بضم النون وكسرها وفتحها، وهم شعب من يهود المدينة أضيفت إليهم السوق.

                                                قوله: "سخلة". بفتح السين وسكون الخاء المعجمة، وهي في الأصل ولد الغنم، ولكن أريد بها ها هنا النسمة كما جاء كذلك في رواية البزار .




                                                الخدمات العلمية