الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن جابر قال: باع النبي صلى الله عليه وسلم عبدا مدبرا فاشتراه ابن النحام عبدا قبطيا مات عام الأول في إمرة ابن الزبير دبره رجل من الأنصار ولم يكن له مال غيره وللبخاري " فاشتراه نعيم بن نحام بثمانمائة درهم " .

                                                            وقال مسلم فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه .

                                                            وفي رواية لأبي داود فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة وفي رواية له أنت أحق بثمنه والله أغنى عنه .

                                                            ولمسلم أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له عن دبر يقال له يعقوب الحديث. ولمسلم أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر الحديث. وزاد ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك . وللنسائي في رواية وكان محتاجا وكان عليه دين وفيه فأعطاه قال اقض دينك .

                                                            وللترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم باعه بعد موته .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثاني)

                                                            عن جابر قال باع النبي صلى الله عليه وسلم عبدا مدبرا فاشتراه ابن النحام عبدا قبطيا مات [ ص: 210 ] عام الأول في إمرة ابن الزبير دبره رجل من الأنصار ولم يكن له مال غيره. .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه من هذا الوجه من طريق سفيان بن عيينة لفظ البخاري مختصر ولفظ مسلم وابن ماجه بمعنى لفظ المصنف ولفظ الترمذي أن رجلا من الأنصار دبر غلاما له فمات، ولم يترك مالا غيره الحديث وقال حسن صحيح، وأخرجه الشيخان من رواية حماد بن زيد وفي رواية البخاري فاشتراه منه نعيم بن النحام بثمانمائة درهم

                                                            وفي رواية مسلم فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه

                                                            وأخرجه البخاري والنسائي من طريق شعبة ثلاثتهم عن عمرو بن دينار ، وأخرجه الشيخان ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق عطاء بن أبي رباح وفي لفظ البخاري فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه

                                                            ولفظ أبي داود فبيع بسبعمائة أو تسعمائة وفي رواية له أنت أحق بثمنه والله أغنى عنه

                                                            وفي لفظ للنسائي وكان محتاجا وكان عليه دين وفيه فأعطاه قال اقض دينك وفي رواية له فاحتاج الرجل

                                                            وأخرجه البخاري والنسائي من رواية محمد بن المنكدر بلفظ إن رجلا أعتق عبدا له ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم فابتاعه منه نعيم بن النحام .

                                                            وأخرجه مسلم ، وأبو داود والنسائي من رواية أبي الزبير بلفظ أعتق رجل من بني عذرة [ ص: 211 ] عبدا له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألك مال غيره فقال لا فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك لفظ مسلم وفي لفظ لمسلم ولأبي داود والنسائي أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له عن دبر يقال له يعقوب والباقي بمعناه. ورواه البيهقي من رواية مجاهد بلفظ كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني عذرة يقال له أبو المذكور وكان له عبد قبطي فأعتقه عن دبر منه ثم احتاج فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم ذا حاجة فليبدأ بنفسه قال فباعه من نعيم بن عبيد الله أخي بني عدي بن كعب بثمانمائة فانتفع بها خمستهم عن جابر رضي الله عنه وقال ابن حزم هذا أثر مشهور مقطوع بصحته بنقل التواتر.

                                                            (الثانية) المدبر العبد الذي علق سيده عتقه على الموت وسمي بذلك ؛ لأن الموت دبر الحياة وقيل ؛ لأن السيد دبر أمر دنياه باستخدامه واسترقاقه، وأمر آخرته بإعتاقه وفي هذا الحديث جواز بيع المدبر واختلف [ ص: 212 ] العلماء في هذه المسألة على مذاهب:

                                                            (أحدها) الجواز مطلقا، وهو مذهب الشافعي والمشهور من مذهب أحمد وبه قال إسحاق ، وأبو ثور وداود وابن حزم وحكاه عن عائشة وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن سيرين وطاوس ومحمد بن المنكدر ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعن الشعبي : يبيعه الجريء ويدعه الورع ..

                                                            وقال ابن حزم : بل يبيعه الورع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سنن البيهقي عن مجاهد ورفعها أهل مكة أن التدبير وصية صاحبها فيها بالخيار ما عاش يمضي منها ما شاء ويرد منها ما شاء وحكاه الشافعي رضي الله عنه عن أكثر التابعين، وأكثر الفقهاء، نقله البيهقي في المعرفة.

                                                            (الثاني) المنع مطلقا، وهو مذهب الحنفية قال الخطابي ومنع من بيع المدبر سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والزهري وهو قول أصحاب الرأي وإليه ذهب سفيان الثوري والأوزاعي وحكاه النووي عن جمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين وفيه نظر لما تقدم عن الشافعي .

                                                            (الثالث) المنع من بيعه إلا أن يكون على السيد دين مستغرق فيباع في حياته، وبعد موته وهذا مذهب المالكية ، وهو رواية عن أحمد .

                                                            (الرابع) يجوز بيع المدبر ويمتنع بيع المدبرة وهو رواية عن أحمد وجزم به ابن حزم عنه، وقال وهذا تفريع لا برهان على صحته.

                                                            (الخامس) جواز بيعه إذا احتاج صاحبه إليه حكاه الخطابي عن الحسن بن ربيعة وحكاه ابن حزم عن طاوس أيضا.

                                                            (السادس) لا يجوز بيعه إلا إذا أعتقه الذي ابتاعه حكاه الخطابي عن الليث بن سعد وحكاه ابن حزم عن مالك وكان القائل بهذا رأى بيعه موقوفا كبيع الفضولي عند القائل به فإن أعتقه المشتري تبين أن البيع صحيح، وإلا فلا فإنه لو بطل البيع من الأول لما صح العتق ؛ لأنه لا يكون إلا في ملك، ولو صح من الأول لم ينقلب باطلا بكون المشتري لم يعتقه.

                                                            (السابع) قال الخطابي وكان ابن سيرين يقول لا يباع إلا من نفسه. انتهى.

                                                            والحق أن هذا ليس قولا آخر بل هو قول المنع مطلقا ؛ لأن بيعه من نفسه ليس بيعا وإنما هو عتق.

                                                            (الثامن) منع بيع المدبر تدبيرا مطلقا، وجواز بيع المدبر بقيد كقوله إن مت من مرضي هذا فأنت حر حكاه الخطابي عن بعض أهل الحديث، وهو مذهب المالكية فإنهم قالوا: إن قول القائل إن [ ص: 213 ] مت من مرضي هذا أو من سفري هذا ليس تدبيرا، وإنما هو وصية والرجوع عن الوصية جائز ولهذا قال الحنفية بجواز البيع في التدبير المقيد .



                                                            (الرابعة) فاحتج من جوز مطلقا بهذا الحديث، وقال الأصل عدم الاختصاص بهذا الرجل وبمن كان على مثل صفته وتأوله المانع مطلقا بأنه ليس بيع رقبته، وإنما هو بيع خدمته وهذا خلاف ظاهر اللفظ وتمسك قائله بما

                                                            روي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال إنما باع رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة المدبر وهذا مرسل ولا حجة فيه وروي عنه موصولا ولا يصح عنه فقد رواه الدارقطني من طريق فيها عبد الغفار بن القاسم وقال: إنه ضعيف، ثم قال وأبو جعفر وإن كان من الثقات فإن حديثه هذا مرسل ثم روى الدارقطني من طريق محمد بن طريف عن ابن فضيل عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بأس ببيع خدمة المدبر إذا احتاج وقال هذا خطأ من ابن طريف والصواب عن عبد الملك عن أبي جعفر مرسلا ولذا قال البيهقي هذا خطأ من ابن طريف دخل له حديث في حديث ثم أوضح ذلك ثم روى عن الشافعي رحمه الله أنه قال في جواب من ذكر له هذا الحديث ما روى هذا عن أبي جعفر فيما علمت أحد يثبت حديثه، ولو رواه من ثبت حديثه ما كان لك فيه الحجة من وجوه. قال: وما هي قلت أنت لا تثبت المنقطع لو لم يخالفه غيره فكيف تثبت المنقطع يخالفه المتصل الثابت، لو كان يخالفه لو ثبت كان يجوز أن أقول باع النبي صلى الله عليه وسلم رقبة مدبرة كما حدث جابر وخدمة مدبر كما حدث محمد بن علي ، وأطال الكلام في الجواب عنه، ومنه أن الشافعي قال لبعض مخالفيه أتقول: إن بيع خدمة المدبر جائز قال لا ؛ لأنها غرر قلت: فقد خالفت ما رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر البيهقي أن عبد الغفار بن القاسم كان علي بن المديني يرميه بالوضع قال ووصله أيضا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان عن عثمان بن عمير عن أبي جعفر عن جابر ، وأبو شيبة ضعيف لا يحتج بأمثاله وقال ابن حزم هذا مرسل

                                                            ثم لو صح لكان حجة على الحنفيين والمالكيين ؛ لأنهم لا يرون بيع خدمة المدبر. قلت: وهذا موافق لما حكاه الشافعي ، وقد قدمناه ويحتمل أن يراد ببيع خدمته الإجارة، وهي جائزة عند المخالفين [ ص: 214 ] أيضا لكن شرط الإجارة التأقيت بمدة وعارضوا ما دل عليه هذا الحديث من الجواز بما رواه الدارقطني ومن طريقه البيهقي من رواية عبيدة بن حسان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث وهو حديث ضعيف وقال الدارقطني لم يسنده غير عبيدة بن حسان وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر موقوفا من قوله ولا يثبت مرفوعا ثم روى عن ابن عمر أنه كره بيع المدبر وقال: وهذا هو الصحيح موقوفا، وما قبله لا يثبت مرفوعا ورواته ضعفاء، ولذا قال البيهقي : إن إسناد المرفوع ضعيف وذكره ابن حزم من طريق عبد الباقي بن قانع عن موسى بن زكريا عن علي بن حرب عن عمرو بن عبد الجبار عن عمه عبيدة بن حسان ثم قال وهذا خبر موضوع ؛ لأن عبد الباقي راوي كل بلية، وقد ترك حديثه إذ ظهر فيه البلاء ثم سائر من رواه إلى أيوب ظلمات بعضها فوق بعض كلهم مجهولون وعمرو بن عبد الجبار إن كان هو السنجاري فهو ضعيف، وإن كان غيره فهو مجهول. قلت لا يحسن تضعيفه بعبد الباقي بن قانع فقد رواه الدارقطني والبيهقي من غير طريقه روياه من طريق جماعة عن علي بن حرب . وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : روي مرفوعا من غير طريق عبيدة بن حسان رواه الطبراني عن أحمد بن النضر العسكري عن محمد بن قدامة الجوهري عن علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا والحديث عند ابن ماجه مختصر عن عثمان بن أبي شيبة عن علي بن ظبيان بسنده المدبر من الثلث وقال سمعت عثمان يقول هذا خطأ وقال ابن ماجه : ليس له أصل. قال والدي : وقد رجع علي بن ظبيان عن رفعه كما رواه الشافعي عنه بعد أن رواه عنه موقوفا فقال: قال لي علي بن ظبيان كنت أحدث به مرفوعا فقال لي أصحابي ليس بمرفوع وهو موقوف على ابن عمر فوقفته قال: والحفاظ يقفونه على ابن عمر . انتهى.

                                                            واحتج من فرق بين أن يكون عليه دين أو لا بالرواية التي ذكرناها من عند النسائي وفيها وكان عليه دين وفيها فأعطاه قال اقض دينك ويعارضها الرواية التي سقناها من صحيح مسلم وفيها [ ص: 215 ] ابدأ بنفسك فتصدق عليها وظاهره أنه أعطاه الثمن لإنفاقه لا لوفاء دين به، ولهذا قال النووي في شرح مسلم هذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم أي على المالكية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باعه لينفقه سيده على نفسه والحديث صريح أو ظاهر في هذا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ابدأ بنفسك فتصدق عليها إلى آخره وقال أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي بعد حكايته عن بعض العلماء أنه باعه في دين، وهذا باطل فإنا قد بينا في الصحيح أنه دفعه إليه، وأمره أن يعود به على قرابته، وعليه في معاشه ودينه.

                                                            وأما الفرق بين المدبر والمدبرة فظاهرية محضة وكان قائله تمسك في المنع من بيع المدبرة بأنه وجد في حقها سبب للعتق لازم وقال بالنص في مورده لكن القياس الجلي يقتضي عدم الفرق.

                                                            وأما التفريق بين الاحتياج، وعدمه فتمسك قائله بقوله، (ولم يكن له مال غيره) وبالرواية التي فيها وكان محتاجا والذين لا يفرقون يرون أن هذا لا مدخل له في الحكم وهو تجويز البيع وإنما ذكر لبيان أنه عليه الصلاة والسلام إنما باشر البيع وقهره على تبطيل التدبير لاحتياجه ولولا ذلك لما فعل ذلك ولتركه، وما فعل وقال القاضي عياض الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظرا له إذ لم يترك لنفسه مالا قال بعضهم: ولذلك يرد تصرف كل من تصدق بكل ماله.

                                                            وقال أبو بكر بن العربي : هذا الحديث ليس من النبي صلى الله عليه وسلم بمقال يلزم الانقياد إليه على كل حال، وإنما هي قضية في عين وحكاية في حال فلا يتعدى إلى غيرها إلا بدليل هذا إذا كانت مجردة من الاحتمال، وإذا تطرق إليها التأويل سقط منها الدليل، والذي يدل على الاحتمال فيها، وأنها خارجة عن طريق الاحتجاج قوله: ولم يكن له مال غيره، ولو كان معه ؛ لأن التدبير لا يقتضي بيعا ولا يوجب عتقا لم يكن لذكر الراوي قوله ولم يكن له مال غيره معنى، ولا يجوز إسقاط بعض الحديث والتعلق ببعضه، ويحتمل أن يكون سفيها فرد النبي صلى الله عليه وسلم فعله وعليه حمله البخاري وبوب به. انتهى.

                                                            وقد عرفت معنى إخبار الراوي بأنه لم يكن له مال غيره.

                                                            وأما حمل ذلك على السفه فمبني على أن هذا الرجل كان [ ص: 216 ] مبذرا لا يحسن التصرف، ولا تجوز نسبته بذلك إلا بنقل وعلى أنه يثبت الحجر عليه من غير ضرب الإمام وبه قال ابن القاسم صاحب مالك وخالفه في ذلك جميع المالكية وجمهور العلماء فقالوا لا يصير محجورا عليه إلا بضرب القاضي وفرق أصبغ بين ظاهر السفه وغيره، وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: من منع بيعه مطلقا فالحديث حجة عليه ؛ لأن المنع الكلي يناقضه الجواز الجزئي، ومن أجاز بيعه في بعض الصور يقول أنا أقول بالحديث في صورة كذا فالواقعة واقعة حال لا عموم لها فلا يقوم على حجة في المنع من بيعه في غيرها كما يقول مالك في جواز بيعه في الدين. انتهى. وقال النووي : والصحيح أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبر بكل حال ما لم يمت السيد والله أعلم .



                                                            (الخامسة) المعروف أنه عليه الصلاة والسلام باعه في حياة صاحبه وأما ما وقع في رواية الترمذي من قوله فمات ولم يترك مالا غيره فهو وهم نسب فيه سفيان بن عيينة إلى الخطأ قال الشافعي بعد روايته عنه كرواية الجمهور هكذا سمعته منه عامة دهري ثم وجدت في كتابي دبر رجل منا غلاما له فمات فإما أن يكون خطأ من كتابي أو خطأ من سفيان فإن كان من سفيان فابن جريج أحفظ لحديث أبي الزبير من سفيان ومع ابن جريج الليث وغيره ، وأبو الزبير يحد الحديث تحديدا يخبر فيه حياة الذي دبره وحماد بن زيد مع حماد بن سلمة وغيره أحفظ لحديث عمرو بن سفيان ممن وجدته، وقد يستدل على حفظ الحديث من خطأته بأقل مما وجدت فقد أخبرني غير واحد ممن لقي سفيان بن عيينة قديما أنه لم يكن يدخل في حديثه مات وعجب بعضهم حين أخبرته أني وجدت في كتابي مات، وقال لعل هذا خطأ عنه أو زلل منه حفظتها عنه. انتهى.

                                                            وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : وقد رواه عن ابن عيينة أحمد بن حنبل وعلي بن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه وقتيبة بن سعيد ، وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة فيما علمت إلا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، وقد رواه عن جابر عطاء ومحمد بن المنكدر ومجاهد لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة إلا أن البيهقي رواه من طريق شريك عن سلمة بن كهيل [ ص: 217 ] عن عطاء ، وأبي الزبير عن جابر أن رجلا مات وترك مدبرا ودينا قال البيهقي ، وقد أجمعوا على خطأ شريك في ذلك قال والدي رحمه الله: وقد رواه الأعمش وسفيان الثوري وإسماعيل بن أبي خالد كلهم عن سلمة بن كهيل لم يذكروا هذه اللفظة، وقد رواه الأوزاعي وحسين المعلم وعبد المجيد بن سهيل كلهم عن عطاء لم يذكر أحد منهم هذه اللفظة بل صرحوا بخلافها ففي الصحيح من رواية عطاء عن جابر فدفع ثمنه إليه فهذا كله يدل على خطأ قول ابن عيينة فيه فمات.

                                                            وقد بين البيهقي سبب الغلط في زيادة هذه اللفظة وذلك أن مطرا رواه عن عطاء ، وأبي الزبير وعمرو بن دينار

                                                            أن جابر بن عبد الله حدثهم أن رجلا من الأنصار أعتق مملوكه إن حدث به حادث فمات فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه من نعيم بن عبد الله أحد بني عدي بن كعب هكذا رواه البيهقي بهذا اللفظ ورواية مطر هذه عند مسلم ولم يسق لفظها وإنما أحال به على ما تقدم فقال بمعنى حديث حماد وابن عيينة عن عمرو عن جابر قال البيهقي وقوله إن حدث به حادث فمات من شرط العتق وليس بإخبار عن موت المعتق، ومن هنا وقع الغلط لبعض الرواة في ذكر وفاة الرجل فيه عند البيع وإنما ذكر وفاته في شرط العتق يوم التدبير.

                                                            (السادسة) قد تبين بالرواية التي سقناها من عند مسلم ، وأبي داود والنسائي أن اسم هذا العبد المدبر يعقوب وقوله في الحديث (عبدا قبطيا) صفة له أيضا، وإنما وقع الفصل بين صفاته بقوله (فاشتراه) ابن النحام ، وقد ذكر ابن فتحون في ذيله على الاستيعاب يعقوب هذا في الصحابة رضي الله عنهم وذكر أنه سماه في الحديث البخاري ومسلم وذكره البخاري وهم وقوله (فاشتراه) ابن النحام كذا وقع في مسند أحمد وفي الصحيحين وغيرهما فاشتراه نعيم بن النحام قال النووي في شرح مسلم : قالوا وهو غلط وصوابه فاشتراه النحام سمي بذلك ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم والنحمة الصوت وقيل هي السعلة وقيل النحنحة والنحام بالنون المفتوحة والحاء المهملة المشددة. انتهى. وكذا قال أبو بكر بن العربي [ ص: 218 ] قال علماؤنا: إنما صوابه نعيم النحام . انتهى.

                                                            وتقدم أن في رواية لمسلم فاشتراه نعيم بن عبد الله وهذه الرواية هي الصواب وزيادة ابن خطأ في بعض الرواة لما قدمناه ونعيم هذا قرشي من بني عدي أسلم قديما قبل إسلام عمر وكان يكتم إسلامه فقيل: إنه أسلم بعد عشرة أنفس وقيل: بعد ثمانية وثلاثين وكان ينفق على أرامل بني عدي ، وأيتامهم فمنعوه الهجرة لذلك وقالوا: أقم عندنا على أي دين شئت ثم هاجر عام الحديبية وتبعه أربعون من أهل بيته واختلف في وفاته فقيل: استشهد يوم اليرموك في خلافة عمر سنة خمس عشرة. وقيل: استشهد بأجنادين في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة. وهذا الرجل الذي من الأنصار قد تقدم من عند مسلم ، وأبي داود والنسائي أنه يقال له أبو مذكور وفي رواية لمسلم والنسائي أعتق رجل من بني عذرة وهذه بظاهرها تنافي الرواية الأخرى إلا أن يكون من بني عذرة صلبية ومن الأنصار مخالفة أو بالعكس وتقدم أن في رواية البيهقي رجل من بني عذرة يقال له أبو المذكور .

                                                            (السابعة) الرواية الصحيحة: إنه بيع بثمانمائة درهم .

                                                            وأما قوله في رواية لأبي داود فبيع بسبعمائة أو تسعمائة فلم يضبطها راويها ولهذا شك فيها .



                                                            (الثامنة) قوله ابدأ بنفسك فتصدق عليها سمى الإنفاق على نفسه صدقة وهو قربة إذا كان من حلال وبقدر الحاجة، وقد يصل إلى الوجوب وذلك عند الاضطرار.

                                                            وقوله فإن فضل بفتح الضاد، ومضارعه بضمها وفيه لغة أخرى بكسر الضاد، ومضارعه بفتحها قال في الصحاح: وفيه لغة أخرى مركبة منهما فضل أي بالكسر يفضل بالضم وهو شاذ لا نظير له قال سيبويه هذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين.

                                                            وقوله فلأهلك أي زوجتك.

                                                            وقوله فإن فضل عن أهلك فلذي قرابتك إن حمل على التطوع يتناول كل ذي قرابة وإن حمل على الواجب اختص بمن تجب نفقته من الأقارب وهم الأصول والفروع عند الشافعي وطائفة ولذلك تفاريع في كتب الفقه ولم يذكر في هذا الحديث الرقيق ولعله داخل في الأهل أو سكت عنه ؛ لأن أكثر الناس لا رقيق لهم فأجرى الكلام على الغالب أو ذاك الشخص المخاطب بهذا الكلام [ ص: 219 ] لا رقيق له فبين حال نفسه، وقد قدم الحنابلة العبد على القريب من ولد وغيره، ولم أر أصحابنا الشافعية تعرضوا لذكر العبد عند تزاحم من تجب نفقته وكان ذلك ؛ لأن له جهة ينفق منها وهي كسبه وبتقدير أن يكون غير كسوب وتعذرت إجارته لمنفعة من المنافع فيباع هو أو جزء منه لنفقته وقوله فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا فيه تقديم الصدقة على القرابة على الصدقة على الأجانب إن كان الحديث في صدقة التطوع فإن كان في النفقة الواجبة خرج من هذا الباب.

                                                            وقوله فهكذا وهكذا كذا هو عند مسلم مرتين ثم فسره بقوله فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك وذلك يقتضي تكرير قوله هكذا ثلاثا وكذا هو في رواية النسائي وعبر بذلك عن كثرة الصدقة وتنويع جهاتها ، وليس المراد حقيقة الجهات المحسوسة وفي هذا الحديث الابتداء بالنفقة على الترتيب المذكور فيه ومحل تقديم النفس في حق من لا يصبر على الإضافة أما من صبر عليها، وآثر على نفسه فهو محمود قد جاء بمدحه القرآن الكريم وفعله الصديق وذلك الأنصاري الذي نزلت فيه هذه الآية وغيرهما وفيه أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الآكد فالآكد وفيه أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا يحصرها في جهة معينة .



                                                            (التاسعة) فيه نظر الإمام في مصلحة رعيته ، وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم وإبطاله ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها.

                                                            (العاشرة) ظاهر قوله باع أن النبي صلى الله عليه وسلم باشر البيع بنفسه، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وتصرفه عليهم ماض لا اندفاع له، ويحتمل أنه أمره بذلك ونسب إليه البيع مجازا لكنه خلاف ما يقتضيه قوله ثم أرسل بثمنه إليه فإنه يقتضي غيبته عن البيع وقبض الثمن وكذا قوله من يشتريه مني يقتضي مباشرته عليه الصلاة والسلام ذلك، والله أعلم.

                                                            وحكى البيهقي في المعرفة عن العلم الشافعي أنه قال يحيط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يبيع على أحد ماله إلا فيما لزمه أو يأمره قيل له فبأيهما باعه قال: أما الذي يدل عليه آخر الحديث في دفعه ثمنه إلى صاحبه الذي دبره فإنه دبره وهو يرى أنه لا يجوز له بيعه حين [ ص: 220 ] دبره وكان يريد بيعه إما محتاجا إلى بيعه، وإما غير محتاج فأراد الرجوع فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فباعه فكان في بيعه دلالة على أن بيعه جائز له إذا شاء، وأمره إذا كان محتاجا أن يبدأ بنفسه نرى ذلك لئلا يحتاج إلى الناس .

                                                            (الحادية عشرة) فيه جواز البيع فيمن يزيد قال النووي : وهو مجمع عليه الآن، وقد كان فيه خلاف ضعيف لبعض السلف .

                                                            (الثانية عشرة) استدل به من جوز الرجوع عن التدبير بالقول وبه قال الشافعي في القديم وهو أحد قوليه في الجديد وهو مبني على أن التدبير وصية. واقتصر ابن العربي على نقل هذا عن الشافعي لكن الذي نص عليه في أكثر كتبه وعليه الفتوى عند أصحابه منع الرجوع عنه بالقول، وأنه ليس وصية، وإنما هو تعليق عتق بصفة ولا يلزم من الرجوع عنه بالتصرف بالبيع وغيره جوازه بالقول فقد يغتفر في الضمنيات ما لا يغتفر في المقاصد والله أعلم .

                                                            (الثالثة عشرة) قوله عام الأول من إضافة الموصوف لصفته وله نظائر فالكوفيون يجيزونه والبصريون يمنعونه ويؤولون ما ورد من ذلك على حذف مضاف تقديره هنا عام الزمن الأول أو نحو ذلك .




                                                            الخدمات العلمية