الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في يدي سواران فكبرا علي وأهماني فأوحي إلي أن أنفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الثاني وعن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في يدي سواران فكبرا علي وأهماني فأوحى الله إلي أن [ ص: 216 ] أنفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه من هذا الوجه البخاري ومسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام وفي رواية البخاري سواران من ذهب وأخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس عن أبي هريرة وفيه من ذهب ، وفيه فأولتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة لفظ البخاري ولفظ مسلم فكان أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة وقال الترمذي غريب وكأنه أراد استغراب رواية ابن عباس عن أبي هريرة فإن روايته عنه قليلة وليس له عنه عند الترمذي سوى هذا الحديث وحديث آخر في التعبير أيضا في قصة الرؤيا التي عبرها الصديق رضي الله عنه وقال القاضي أبو بكر بن العربي إنه من المدبج في رواية الصحابي عن الصحابي (قلت) والاصطلاح في المدبج أن يروي كل من القرينين من غير تقييد بالصحابة عن الآخر فمجرد رواية ابن عباس عن أبي هريرة لا يعد من المدبج في اصطلاح المحدثين إلا أن يكون لأبي هريرة رواية عن ابن عباس ولا نعلمه وأخرج ابن ماجه هذا الحديث أيضا من رواية محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة .

                                                            (الثانية) قوله بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض قال الخطابي يحتمل أن يكون إشارة إلى ما فتح لأمته من الممالك فغنموا أموالها واستباحوا خزائن ملوكها المدخرة كخزائن كسرى وقيصر وغيرهما من الملوك ويحتمل أن يكون المراد به معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة وأنواع الفلزات ، وهو بكسر الفاء واللام وتشديد الزاي ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض قاله في الصحاح قال الخطابي جعلت في يده بمعنى المعدة أي ستفتح تلك البلدان التي فيها هذه المعادن والخزائن فيكون لأمته قال النووي قال [ ص: 217 ] العلماء هذا محمول على سلطانها وملكها وفتح بلادها وأخذ خزائن أموالها ، وقد وقع ذلك كله ولله الحمد ، وهو من المعجزات .

                                                            (الثالثة) قوله فوضع في يدي بتشديد الياء على التثنية وقوله سواران ) هو بكسر السين وضمها لغتان مشهورتان وفيه لغة ثالثة وهي أسوار بضم الهمزة .

                                                            (الرابعة) قوله فكبرا علي بضم الباء الموحدة وقوله وأهماني بهمزة أوله ويستعمل ثلاثيا أيضا يقال همني الأمر وأهمني بمعنى واحد قال أبو العباس القرطبي وإنما أهمه شأنهما لأنهما من حلية النساء ومما يحرم على الرجال .

                                                            (الخامسة) قوله فأوحى الله إلي أن أنفخهما فنفختهما هو بالخاء المعجمة ونفخه صلى الله عليه وسلم لهما فذهبا وفي رواية فطارا دليل لانمحاقهما واضمحلال أمرهما وكان كذلك ، وهو من المعجزات وقال القاضي أبو بكر بن العربي ، ولم يوح إليه أن أخرجهما بيديك أو ارم بهما عن يديك فكان النفخ دليلا على أنهما مرميان ببركته أي أن غيره يفعلهما بنسبته إليه وكونه منه قال ولا يصح أن يكون النفخ مثلا دليلا على ضعف حالهما فإنه كان شديدا لم ينزل بالمسلمين مثله قط ولو قيل إنه مثل على ضعفهما لقلنا إنه مثل ضمن الوجهين .

                                                            (السادسة) قال أبو العباس القرطبي ظاهره أن هذا وحي من جهة الملك على غالب عادته ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما .

                                                            (السابعة) قوله فأولتهما الكذابين قال القاضي عياض إنما تأول ذلك والله أعلم فيهما لما كان السواران في اليدين جميعا من الجهتين وكان حينئذ النبي بينهما وتأول السوارين على الكذابين ومن ينازعه الأمر لوضعهما غير موضعهما إذ هما من حلي النساء وموضعهما أيديهما لا أيدي الرجال وكذلك الكذب والباطل هو الإخبار بالشيء على موضعه مع كونهما من ذهب ، وهو حرام على الرجال ولما في اسم السوارين من لفظ السور لقبضهما على يديه وليسا من حليته ولأن كونهما من ذهب إشعارا بذهاب أمرهما وبطلان باطلهما وقال القاضي أبو بكر بن العربي السوار من آلات الملوك قال الله سبحانه وتعالى مخبرا عن الكفار فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ولليد في العربية معان كثيرة منها القوة والسلطان والقهر والغلبة تقول العرب ما لي بهذا الأمر يدان ولذلك أوله النبي صلى الله عليه وسلم منازعا له [ ص: 218 ] يخرج ويحتمل أن يكون ضرب المثل بالسوار كناية عن الأسوار ، وهو الملك وحذف الهمزة وكثيرا ما يضرب الملك الأمثال بالحذف من الحروف وبالزيادة فيها ، وهو معلوم عند أهل الصناعة انتهى .

                                                            وقال أبو العباس القرطبي وجه مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء واليمامة كانوا قد أسلموا وكانا كالساعدين للإسلام فلما ظهر فيهما هذان الكذابان وتبهر حالهما بترهاتهما وزخرفا أقوالهما فانخدع الفريقان بتلك البهرجة فكان البلدان للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة يديه والسواران فيهما هما مسيلمة وصاحب صنعاء بما زخرفا من أقوالهما .

                                                            (الثامنة) قوله الذين أنا بينهما يقتضي وجودهما حين هذه الرؤيا ، وهو كذلك وقوله في الرواية الأخرى فأولتهما كذابين يخرجان بعدي .

                                                            قد يقتضي خلاف ذلك والجمع بينهما أن المراد بخروجها بعده ظهور شوكتهما ومحاربتهما قال النووي قال العلماء المراد بقوله صلى الله عليه وسلم يخرجان بعدي أي يظهران شوكتهما ومحاربتهما ودعواهما النبوة وإلا فقد كان في زمنه .

                                                            (التاسعة) قوله ( صاحب صنعاء وصاحب اليمامة ) يقتضي أن التنصيص عليهما من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقوله في الرواية الأخرى فكان أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة قد يفهم أن ذلك من كلام الراوي ، وهو في صحيح البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحدهما العنسي الذي قتله فيروز باليمن والآخر مسيلمة الكذاب .

                                                            وقد يقال لا منافاة بينهما فقد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الراوي والله أعلم .

                                                            (العاشر) صاحب صنعاء هو العنسي بفتح العين المهملة وإسكان النون وكسر السين المهملة واسمه الأسود بن كعب ويلقب بذي حمار وسبب تلقيبه بذلك على ما قاله ابن إسحاق أنه لقيه حمار فعثر وسقط لوجهه فقال سجد لي الحمار فارتد عن الإسلام وادعى النبوة وتخرق على الجهال فاتبعوه وغلب على صنعاء وأخرج منها المهاجر بن أسد المخزومي وكان عاملا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وانتشر أمره وغلب على امرأة مسلمة من الأساورة فتزوجها فدست إلى قوم من الأساورة إني قد صنعت سربا يوصل منه إلى مرقد الأسود ودلتهم على ذلك فدخل منه قوم منهم فيروز الديلمي وقيس بن مكشوح فقتلوه وجاءوا برأسه إلى رسول الله [ ص: 219 ] صلى الله عليه وسلم على ما قاله ابن إسحاق وقال وثيمة ومنهم من يقول كان ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه قال أبو العباس القرطبي وهذا هو الأظهر إن شاء الله لقوله عليه السلام يخرجان بعدي أي بعد وفاتي والله أعلم .

                                                            (الحادية عشرة) وصاحب اليمامة هو مسيلمة بضم الميم وفتح السين المهملة وإسكان الياء المثناة من تحت وكسر اللام ابن ثمامة يكنى أبا ثمامة ، وفي الصحيح عن ابن عباس قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته ، وقدمها في نفر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني ، ثم انصرف عنه قال ابن عباس فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أريت فيك ما أريت فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم فذكر الحديث المتقدم قال ابن إسحاق وكان من شأنه أن تنبأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر وكان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ويزعم أنه شريك معه في نبوته وقال سعيد بن المسيب إنه كان قد تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله بن عبد المطلب أبو النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قتل ، وهو ابن خمسين ومائة سنة .

                                                            قال سعيد بن جبير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم قالت قريش إنما يعني مسيلمة وعظم أمر مسيلمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأطبق عليه أهل اليمامة وانضاف إليه بشر كثير من أهل الردة فأرسل إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كتبا كثيرة يعظهم ويحذرهم إلى أن بعث إليهم كتابا مع حبيب بن عبد الله الأنصاري فقتله مسيلمة فعند ذلك عزم أبو بكر على قتالهم والمسلمون فأمر أبو بكر خالد بن الوليد وتجهز الناس فصاروا إلى اليمامة فاجتمع لمسيلمة جيش عظيم وخرج إلى المسلمين فالتقوا وكانت بينهم حروب عظيمة شديدة واستشهد فيها من قراء القرآن خلق كثير حتى خاف أبو بكر وعمر أن يذهب من القرآن شيء لكثرة من استشهد من القراء ، ثم إن الله تعالى ثبت [ ص: 220 ] المسلمين وقتل مسيلمة على يدي وحشي قاتل حمزة ورماه بالحربة التي قتل بها حمزة ، ثم وقف عليه رجل من الأنصار ، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم فاحتز رأسه وهزم الله جيشه وأهلكهم وفتح الله اليمامة فدخلها خالد واستولى على جميع ما حوته من النساء والولدان والأموال وأظهر الله الدين وجعل العاقبة للمتقين .

                                                            (الثانية عشرة) قال ابن العربي كان صلى الله عليه وسلم يتوقع لمسيلمة والأسود فأول الرؤيا لهما ليكون ذلك إخراجا للمنام عليهما ودفعا لحالهما فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت ويحتمل أن تكون بوحي والأول أقرب انتهى .




                                                            الخدمات العلمية