الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[تعذر التصحيح في هذه الأعصار بمجرد اعتبار الأسانيد في نظر ابن الصلاح : ]

20 - قوله: (ص): (فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ... إلى آخر كلامه)

[ ص: 267 ] [رد الحافظ على ابن الصلاح : ]

وفيه أمور:

الأمر الأول: قوله: عما يشترط في الصحيح من الحفظ فيه نظر؛ لأن الحفظ لم يعده أحد من أئمة الحديث شرطا للصحيح وإن كان حكي عن بعض المتقدمين من الفقهاء. كما روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت أشهب يقول: سئل مالك عن الرجل الغير فهم يخرج كتابه ويقول: هذا سمعته.

قال: لا يؤخذ إلا عمن يحفظ حديثه ويعرف.

ورواها الحاكم في (علوم الحديث) من طريق ابن عبد الحكم عن أشهب بلفظ آخر، قال: سئل مالك : أيؤخذ العلم ممن لا يحفظ حديثه وهو ثقة صحيح؟. قال: (لا).

[ ص: 268 ]

قيل فإن أتى بكتب فقال: سمعتها وهو ثقة.

قال: لا يؤخذ عنه أخاف أن يزاد في حديثه بالليل.

هذا وإن كان صريحا في أنه لا يؤخذ عمن لا يحفظ، فإن العمل في القديم والحديث على خلافه، لا سيما منذ دونت الكتب، وقد ذكر المؤلف في (النوع السادس والعشرين) أن ذلك من مذاهب أهل التشديد. هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ ما يحدث به الراوي بعينه، وإن أراد أن الراوي شرطه أن يعد حافظا، فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا .

[ شروط التسمية بالحافظ :]

1 - وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف.

2 - والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم.

3 - والمعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون.

فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا.

ولم يجعله أحد من أئمة الحديث شرطا للحديث الصحيح.

نعم والمصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض للحفظ أصلا، فما باله يشعر هنا بمشروطيته [ ص: 269 ] ومما يدل على أنه إنما أراد حفظ ما يحدث به بعينه أنه قابل به من اعتمد على ما في كتابه، فدل على أنه يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه.

والمعروف أن أئمة الحديث كالإمام أحمد وغيره خلاف ذلك.

الأمر الثاني: أن من اعتمد في روايته على ما في كتابه لا يعاب، بل هو وصف أكثر رواة الصحيح من بعد الصحابة وكبار التابعين؛ لأن الرواة الذين للصحيح على قسمين:

أ - قسم كانوا يعتمدون على حفظ حديثهم، فكان الواحد منهم يتعاهد حديثه ويكرر عليه فلا يزال مبينا له، وسهل ذلك عليهم قرب الإسناد وقلة ما عند الواحد منهم من المتون حتى كان من يحفظ منهم ألف حديث يشار إليه بالأصابع. ومن هنا دخل الوهم والغلط على بعضهم لما جبل عليه الإنسان من السهو والنسيان.

ب: - وقسم كانوا يكتبون ما يسمعونه ويحافظون عليه ولا يخرجونه من أيديهم ويحدثون منه.

وكان الوهم والغلط في حديثهم أقل من أهل القسم الأول إلا من تساهل منهم. كمن حدث من غير كتابه، أو أخرج كتابه من يده إلى غيره فزاد فيه ونقص وخفي عليه. فتكلم الأئمة فيمن وقع له ذلك منهم. وإذا تقرر هذا، فمن كان عدلا لكنه لا يحفظ حديثه عن ظهر قلب، [ ص: 270 ] واعتمد على ما في كتابه فحدث منه، فقد فعل اللازم له وحديثه على هذه الصورة صحيح بلا خلاف، فكيف يكون هذا سببا لعدم الحكم بالصحة على ما يحدث به. هذا مردود. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الأمر الثالث: قوله: فآل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشتهرة... إلى آخره فيه نظر؛ لأنه يشعر بالاقتصار على ما يوجد منصوصا على صحته ورد ما جمع شروط الصحة إذا لم يوجد النص على صحته من الأئمة المتقدمين.

فيلزم على الأول تصحيح ما ليس بصحيح؛ لأن كثيرا من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن.

فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن.

وكذا في كتاب ابن حبان بل وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع [ ص: 271 ] أن الترمذي ممن يفرق بين الصحيح والحسن، لكنه قد خفي على الحافظ بعض العلل في الحديث فيحكم (عليه) بالصحة بمقتضى ما ظهر له ويطلع عليها غيره فيرد بها الخبر.

وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح بين كلاميهما بميزان العدل والعمل بما يقتضيه الإنصاف، ويعود الحال إلى النظر والتفتيش الذي يحاول المصنف سد بابه، والله تعالى أعلم.

الأمر الرابع: كلامه يقتضي الحكم بصحة ما نقل عن الأئمة المتقدمين فيما حكموا بصحته في كتبهم المعتمدة المشتهرة. والطريق التي وصل إلينا بها كلامهم على الحديث، بالصحة وغيرها هي الطريق التي وصلت إلينا بها أحاديثهم.

فإن أفاد الإسناد صحة المقالة عنهم فليفد الصحة بأنهم حدثوا بذلك الحديث ويبقى النظر إنما هو الرجال الذين فوقهم وأكثرهم رجال الصحيح كما سنقرره.

الأمر الخامس: ما استدل به على تعذر التصحيح في هذه الأعصار المتأخرة بما ذكره من كون الأسانيد ما منها إلا وفيه من لم يبلغ درجة الضبط والحفظ والإتقان، ليس بدليل ينهض لصحة ما ادعاه من التعذر؛ لأن الكتاب [المشهور] الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه: كسنن النسائي مثلا لا يحتاج في صحة نسبته إلى النسائي إلى اعتبار حال رجال الإسناد منا إلى مصنفه.

التالي السابق


الخدمات العلمية