الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              173 [ 95 ] وعن ابن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول : يا أبتاه ، أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟! أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟! قال : فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما نعد : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، إني كنت على أطباق ثلاثة : لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ، ولا أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي ، أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه ، قال : فقبضت يدي ، قال : ما لك يا عمرو ؟! ، قال : قلت : أردت أن أشترط ، قال : تشترط بماذا ؟! ، قلت : أن يغفر لي ، قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟! ، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه ; إجلالا له ، ولو سئلت أن أصفه ، ما أطقت ; لأني لم أكن أملأ عيني منه ، ولو مت على تلك الحال ، لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت ، فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني ، فشنوا علي التراب شنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .

                                                                                              رواه مسلم ( 121 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و ( قول عمرو بن العاص : " إن أفضل ما نعد : شهادة : أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ") أي : أفضل ما نتخذه عدة للقاء الله تعالى : الإيمان بالله تعالى ، وتوحيده ، وتصديق رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والنطق بذلك . وقد تقدم أن الإيمان أفضل الأعمال كلها ، ويتأكد أمر النطق بالشهادتين عند الموت ; ليكون ذلك خاتمة أمره ، وآخر كلامه .

                                                                                              و (قوله : " إني كنت على أطباق ثلاثة ") أي : أحوال ومنازل ، ومنه قوله تعالى : لتركبن طبقا عن طبق [ الانشقاق : 19 ] أي : حالا بعد حال .

                                                                                              و (قوله : " ابسط يمينك فلأبايعك ") بكسر اللام وإسكان العين على الأمر ، أي : أمر المتكلم لنفسه ، والفاء جواب لما تضمنه الأمر الذي هو ابسط من الشرط . ويصح أن تكون اللام لام كي ، وبنصب أبايعك ، وتكون اللام سببية ، والله أعلم .

                                                                                              [ ص: 329 ] و (قوله : " إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله ") الهدم هنا : استعارة وتوسع ، يعني به : الإذهاب والإزالة ; لأن الجدار إذا انهدم ، فقد زال وضعه ، وذهب وجوده ، وقد عبر عنه في الرواية الأخرى بالجب ، فقال : يجب ، أي : يقطع ، ومنه المجبوب ، وهو المقطوع ذكره .

                                                                                              ومعنى العبارتين واحد ، ومقصودهما : أن هذه الأعمال الثلاثة تسقط الذنوب التي تقدمتها كلها ، صغيرها وكبيرها ; فإن ألفاظها عامة خرجت على سؤال خاص ; فإن عمرا إنما سأل أن يغفر له ذنوبه السابقة بالإسلام ، فأجيب على ذلك ; فالذنوب داخلة في تلك الألفاظ العامة قطعا ، وهي بحكم عمومها صالحة لتناول الحقوق الشرعية ، والحقوق الآدمية ; وقد ثبت ذلك في حق الكافر الحربي إذا أسلم ; فإنه لا يطالب بشيء من تلك الحقوق ، ولو قتل وأخذ الأموال ، لم يقتص منه بالإجماع ، ولو خرجت الأموال من تحت يده ، لم يطالب بشيء منها .

                                                                                              ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم ; عبيد ، أو عروض ، أو عين ; فمذهب مالك : أنه لا يجب عليه رد شيء من ذلك ; تمسكا بعموم هذا الحديث ، وبأن للكفار شبه ملك فيما حازوه من أموال المسلمين وغيرهم ; لأن الله تعالى قد نسب لهم أموالا وأولادا ; فقال تعالى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم [ التوبة : 55 ] .

                                                                                              وذهب الشافعي : إلى أن ذلك لا يحل لهم ، وأنه يجب عليهم ردها إلى من كان يملكها من المسلمين ، وأنهم كالغصاب ; وهذا يبعده : أنهم لو استهلكوا ذلك في حالة كفرهم ثم أسلموا ، لم يضمنوا بالإجماع ; على ما حكاه أبو محمد عبد الوهاب .

                                                                                              فأما أسر المسلمين [ ص: 330 ] الأحرار : فيجب عليهم رفع أيديهم عنهم ; لأن الحر لا يملك . وأما من أسلم من أهل الذمة : فلا يسقط الإسلام عنه حقا وجب عليه لأحد من مال أو دم أو غيرهما ; لأن أحكام الإسلام جارية عليهم . واستيفاء الفروع في كتب الفقه . وأما الهجرة ، والحج : فلا خلاف في أنهما لا يسقطان إلا الذنوب والآثام السابقة ، وهل يسقطان الكبائر والصغائر ، أو الصغائر فقط ؟ موضع نظر سيأتي في كتاب الطهارة ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                              و (قوله : " فإذا مت ، فلا تصحبني نائحة ولا نار ") إنما وصى باجتناب هذين الأمرين ; لأنهما من عمل الجاهلية ، ولنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

                                                                                              و (قوله : " فإذا دفنتموني ، فشنوا علي التراب شنا ") روي هذا الحديث بالسين المهملة ، والمعجمة ، فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو الصب ، وقيل : هو بالمهملة : الصب في سهولة ، وبالمعجمة : صب في تفريق . وهذه سنة في صب التراب على الميت في القبر ; قاله عياض ، وقد كره مالك في " العتبية " الترصيص على القبر بالحجارة والطوب .

                                                                                              و (قوله : " ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ") الجزور بفتح الجيم : من الإبل ، والجزرة : من غيرها ، وفي كتاب " العين " : الجزرة من الضأن والمعز خاصة ، وهي مأخوذة من الجزر ، وهو القطع .




                                                                                              الخدمات العلمية