الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة الإجماع من الأكثر ليس بحجة مع مخالفة الأقل وقال قوم هو حجة وقال قوم : إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر اندفع الإجماع وإن نقص فلا يندفع .

              والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها ، وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه ، وقد قال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } فإن قيل : قد تطلق الأمة ويراد بها الأكثر ، كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف ، ويراد الأكثر .

              قلنا من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع ، ولا يجوز التخصيص بالتحكم بل بدليل وضرورة ولا ضرورة ههنا ، ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الأقل وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه ، كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال { وهم يومئذ الأقلون } [ ص: 147 ] وقال صلى الله عليه وسلم { سيعود الدين غريبا كما بدأ غريبا } وقال تعالى { أكثرهم لا يعقلون } وقال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } وقال تعالى : { كم من فئة قليلة } الآية .

              وإذا لم يكن ضابط ولا مرد فلا خلاص إلا باعتبار قول الجميع . الدليل الثاني إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد ، فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره . فإن قيل : لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة وأن الربا في النسيئة ، وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة ، وأنكروا على أبي موسى الأشعري قوله : " النوم لا ينقض الوضوء وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر وذلك لانفرادهم به قلنا لا بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم .

              ثم نقول : هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد ، والمنفرد منكر عليهم إنكارهم ولا ينعقد الإجماع ، فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد . ولهم شبهتان :

              الشبهة الأولى : قولهم : قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم ، فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر ؟ وعن هذا قال قوم : عدد الأقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع . وهذا فاسد من ثلاثة أوجه .

              الأول : أن صدق الأكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الأمة واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع ، فسقطت الحجة لأنهم ليسوا كل الأمة .

              الثاني : أن كذب الواحد ليس بمعلوم فلعله صادق ، فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا .

              الثالث : أنه لا نظر إلى ما يضمرون بل التعبد متعلق بما يظهرون فهو مذهبهم وسبيلهم لا ما أضمروه ، فإن قيل : فهل يجوز أن تضمر الأمة خلاف ما تظهر ؟ قلنا : ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال لأنه يؤدي إلى اجتماع الأمة على ضلالة وباطل ، وهو ممتنع بدليل السمع .

              الشبهة الثانية : أن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة وهو منهي عنه ، فقد ورد ذم الشاذ وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع . قلنا : الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ، ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده وهو الشذوذ ، أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا . فإن قيل : فقد قال عليه السلام : { عليكم بالسواد الأعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد } .

              قلنا : أراد به الشاذ الخارج على الإمام بمخالفة الأكثر على وجه يثير الفتنة وقوله : { وهو عن الاثنين أبعد } أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ، ولهذا قال عليه السلام : { والثلاثة ركب } . وقد قال بعضهم قول الأكثر حجة وليس بإجماع . وهو متحكم بقوله إنه حجة إذ لا دليل عليه وقال بعضهم : مرادي به أن اتباع الأكثر أولى .

              قلنا : هذا يستقيم في الأخبار وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين المجتهدين سوى الكثرة ، وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الأكثر لأنه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية