الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة وهو قسمان

                                                      أحدهما : الألفاظ المستعارة وهي المقولة أولا على شيء ، ثم استعيرت لغيره لمناسبة بينهما ، كاستعارتهم أعضاء الحيوان لغير الحيوان . قالوا : رأس المال ، ووجه النهار ، وحاجب الشمس ، وعين الماء ، وكبد السماء ، فهذا القسم إذا ورد في الشرع حمل على ظاهره ، وهو الحقيقة ، حتى يدل دليل على أنه لغيرها . وهو المجاز ، لأن المجاز فيها لم يغلب استعماله ، فإن غلب استعماله حتى صار اسما عرفيا بالمعنى الثاني كقولهم : الغائط للمطمئن من الأرض - كان حمله على المجاز هو الظاهر ، حتى يدل الدليل على الحقيقة . وقد يتطرق إلى هذا القسم الإجمال ، فإن تساوى الحقيقة والمجاز في كثرة الاستعمال ، كقوله تعالى : { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } فإن المراد هاهنا العدل ، وهو محتمل لذلك احتمالا يساوي الحقيقة - فيلحق بالمجمل .

                                                      والثاني : من أقسام الظاهر هي : ألفاظ العموم ، فإنها ظاهرة في الاستغراق ، محتملة للتخصيص ، على ما سبق هناك .

                                                      وأما التأويل : فهو لغة : المرجع من آل إليه الأمر ، أي رجع . وقال النضر بن شميل : مأخوذ من الإيالة وهي السياسة . يقال : فلان آيل علينا ، أي سائسنا ، فكان المؤول بالتأويل ، كالمتحكم السائس على الكلام المتصرف [ ص: 37 ] فيه وقال ابن فارس في " فقه العربية " : التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال : مآل هذا الأمر أي مصيره . قال تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } أي لا يعلم الآجال والمدد إلا الله ، واشتقاق الكلمة من الآل ، وهو العاقبة والمصير . واصطلاحا : صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله ، ثم إن حمل لدليل فصحيح ، وحينئذ فيصير المرجوح في نفسه راجحا للدليل ، أو لما يظن دليلا ففاسد ، أو لا لشيء فلعب ، لا تأويل . فإذن التأويل : صرف اللفظ إلى غيره لا نفس الاحتمال . وقال الغزالي والرازي : هو احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر . وهو غير جامع ، لأنه لا يتناول الفاسد واليقيني . ثم إنه جعله عبارة عن نفس الاحتمال وليس كذلك . ولا يتطرق التأويل إلى النص والمجمل ، ثم ليس كل احتمال يعضده دليل فهو تأويل صحيح مقبول ، بل يختلف ذلك باختلاف ظهور المؤول ، فإن كانت دلالة المؤول عليه من الخارجي تزيد على دلالته على ما هو ظاهر فيه قبل ، وإلا فلا . وقال العبدري : هذا التعريف إنما يصح لو كان لا يتأول إلا العموم ، وليس كذلك ، فهو غير منعكس ، لأنه يخرج عنه ما هو منه ، فإن من التأويل ما هو صرف اللفظ عن حقيقة إلى حقيقة ، كاللفظ العرفي بالمعنى الأول تصرفه عن العرف وهو حقيقة منه إلى الوضع الأول ، وهو حقيقة فيه . قال الشيخ في " شرح الإلمام " : اعلم أن التأويل صرف اللفظ عن [ ص: 38 ] ظاهره ، وكان الأصل حمله على ظاهره ، فالواجب أن يعضد التأويل بدليل من خارج ، لئلا يكون تركا للظاهر من غير معارض ، وقد جعلوا الضابط فيه مقابلة الظاهر بالتأويل وعاضده ، وتقديم الأرجح في الظن ، فإن استويا فقد قيل بالوقف ، وإن كان ما يدعي تأويلا لا ينقدح احتماله فهو باطل . واعلم أن تقديم أرجح الظنين عند التقابل هو الصواب ، غير أنا نراهم إذا انصرفوا إلى الظن ، تمسك بعضهم بهذا القانون . ومن أسبابه اشتباه الميل الحاصل بسبب الأدلة الشرعية بالميل الحاصل من الإلف والعادة والعصبية ، فإن هذه الأمور تحدث للنفس هيئة وملكة تقتضي الرجحان في النفس بجانبها ، بحيث لا يشعر الناظر بذلك ، ويتوهم أنه رجحان الدليل ، وهذا محل خوف شديد وخطر عظيم يجب على المتقي الله أن يصرف نظره إليه ويقف فكره عليه .

                                                      وقال في " شرح العنوان " : يجب إجراء اللفظ على ظاهره دون مآله إلا بدليل يدل على الخلاف الظاهر ، وشرطه أن يكون الظن المستفاد من ذلك الدليل على التأويل المرجوح أقوى من الظاهر ، وهو تصرف حسن لو مشى عليه في آحاد المسائل حيث يقع المتصرف فيها ، لأن القاعدة أن العمل بأقوى الظنين واجب ، وكلما كان أبعد احتاج إلى دليل أقوى لما ذكرنا ، واستثنى منه الظواهر المقتضية لخلاف ما دل القواطع العقلية عليه . وقيل : لا فرق بين البعيد من التأويل والقريب وهو راجع إلى ترجيح الأقوى ، لأن القاطع لا يمكن صرفه عن مدلوله ، بخلاف الظاهر .

                                                      قلت : وكلام صاحب " المقترح " من الجدليين مصرح بأن دليل التأويل يصح أن يكون مساويا ، وهو مخالف لكلام الجمهور ، وحمله بعض شارحيه على أن دليل التأويل إن كان راجحا ، تعين المصير إليه ، وإن كان مساويا كان ذلك معارضة . وكلاهما يزيف كلام المستدل ، ويمنعه من العمل بدليله . قال : وعلى هذا فيوافق كلام الأصوليين ، ورجع الخلاف إلى اللفظ . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية