الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    16 - ( فصل )

                    ومن عجيب الفراسة ما ذكر عن أحمد بن طولون : أنه بينما هو في مجلس له يتنزه فيه ، إذ رأى سائلا في ثوب خلق ، فوضع دجاجة في رغيف وحلوى وأمر بعض الغلمان بدفعه إليه ، فلما وقع في يده لم يهش ، ولم يعبأ به ، فقال للغلام : جئني به ، فلما وقف قدامه استنطقه ، فأحسن الجواب ، ولم يضطرب من هيبته ، فقال : هات الكتب التي معك ، واصدقني من بعثك ، فقد صح عندي أنك صاحب خبر . وأحضر السياط ، فاعترف ، فقال بعض جلسائه : هذا والله السحر ، قال : ما هو بسحر ، ولكن فراسة صادقة ، رأيت سوء حاله ، فوجهت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان ، فما هش له ، ولا مد يده إليه ، فأحضرته فتلقاني بقوة جأش ، فلما رأيت رثاثة حاله ، وقوة جأشه ، علمت أنه صاحب خبر ، فكان كذلك .

                    ورأى يوما حمالا يحمل صنا وهو يضطرب تحته ، فقال : لو كان هذا الاضطراب من ثقل المحمول لغاصت عنق الحمال ، وأنا أرى عنقه بارزة ، وما أرى هذا الأمر إلا من خوف ، فأمر بحط الصن ، فإذا فيه جارية قد قتلت وقطعت ، فقال : اصدقني عن حالها ، فقال : أربعة نفر في الدار الفلانية أعطوني هذه الدنانير ، وأمروني بحمل هذه المقتولة . فضربه وقتل الأربعة . [ ص: 42 ] وكان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة فدعا ثقته ، وقال : خذ هذه الدنانير ، وأعطها إمام مسجد كذا ، فإنه فقير مشغول القلب .

                    ففعل ، وجلس معه وباسطه ، فوجد زوجته قد ضربها الطلق ، وليس معه ما يحتاج إليه فقال : صدق ، عرفت شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة ومن ذلك : أن اللصوص أخذوا في زمن المكتفي مالا عظيما ، فألزم المكتفي صاحب الشرطة بإخراج اللصوص .

                    ، أو غرامة المال ; فكان يركب وحده ، ويطوف ليلا ونهارا ، إلى أن اجتاز يوما في زقاق خال في بعض أطراف البلد ، فدخله فوجده منكرا ، ووجده لا ينفذ ، فرأى على بعض أبوابه شوك سمك كثير ، وعظام الصلب .

                    فقال لشخص : كم يكون تقدير ثمن هذا السمك الذي هذه عظامه ؟ قال : دينار ، قال : أهل الزقاق لا تحتمل أحوالهم مشتري مثل هذا ، لأنه زقاق بين الاختلال إلى جانب الصحراء ، لا ينزله من معه شيء يخاف عليه ، أو له مال ينفق منه هذه النفقة ، وما هي إلا بلية ، ينبغي أن يكشف عنها ، فاستبعد الرجل هذا ، وقال : هذا فكر بعيد ، فقال : اطلبوا لي امرأة من الدرب أكلمها .

                    فدق بابا غير الذي عليه الشوك واستسقى ماء ، فخرجت عجوز ضعيفة .

                    فما زال يطلب شربة بعد شربة ، وهي تسقيه ، وهو في خلال ذلك يسأل عن الدرب وأهله ، وهي تخبره غير عارفة بعواقب ذلك ، إلى أن قال لها : وهذه الدار من يسكنها ؟ - وأومأ إلى التي عليها عظام السمك - فقالت : فيها خمسة شباب أعفار ، كأنهم تجار ، وقد نزلوا منذ شهر لا نراهم نهارا إلا في كل مدة طويلة ، ونرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعا ، وهم في طول النهار يجتمعون فيأكلون ويشربون ، ويلعبون بالشطرنج والنرد ، ولهم صبي يخدمهم ، فإذا كان الليل انصرفوا إلى دار لهم بالكرخ ، ويدعون الصبي في الدار يحفظها .

                    فإذا كان سحرا جاءوا ونحن نيام لا نشعر بهم فقالت للرجل : هذه صفة لصوص أم لا ؟ قال : بلى ، فأنفذ في الحال ، فاستدعى عشرة من الشرط ، وأدخلهم إلى أسطحة الجيران ، ودق هو الباب ، فجاء الصبي ففتح .

                    فدخل الشرط معه ، فما فاته من القوم أحد فكانوا هم أصحاب الجناية بعينهم ومن ذلك : أن بعض الولاة سمع في بعض ليالي الشتاء صوتا بدار يطلب ماء باردا ، فأمر بكبس الدار ، فأخرجوا رجلا وامرأة ، فقيل له : من أين علمت ؟ قال : الماء لا يبرد في الشتاء ، إنما ذلك علامة بين هذين .

                    وأحضر بعض الولاة شخصين متهمين بسرقة ، فأمر أن يؤتى بكوز من ماء ، فأخذه بيده ثم ألقاه عمدا فانكسر ، فارتاع أحدهما ، وثبت الآخر فلم يتغير ، فقال للذي انزعج : اذهب ، وقال للآخر : أحضر العملة .

                    فقيل له : ومن أين عرفت ذلك ؟ فقال : اللص قوي القلب لا ينزعج ، والبريء يرى أنه لو تحركت في البيت فأرة لأزعجته ، ومنعته من السرقة .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية