الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في العزل 2787 - ( عن جابر قال : { كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل } . متفق عليه . ولمسلم : { كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا } ) .

                                                                                                                                            2788 - ( وعن جابر : { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل ، فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها } رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) . [ ص: 233 ]

                                                                                                                                            2789 - ( وعن أبي سعيد قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب ، فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل ، فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            2790 - ( وعن أبي سعيد قال : { قالت اليهود : العزل الموءودة الصغرى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كذبت يهود ، إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه } رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            2791 - ( وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { في العزل : أنت تخلقه ، أنت ترزقه ، أقره قراره فإنما ذلك القدر } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            2792 - ( وعن أسامة بن زيد : { أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني ، أعزل عن امرأتي ، فقال له صلى الله عليه وسلم : لم تفعل ذلك ؟ فقال له الرجل : أشفق على ولدها أو على أولادها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كان ضارا ضر فارس والروم } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            2793 - ( وعن جذامة بنت وهب الأسدية قالت : { حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم ، فلا يضر أولادهم شيئا ، ثم سألوه عن العزل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك الوأد الخفي { وإذا الموءودة سئلت } } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            2794 - ( وعن عمر بن الخطاب قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها } . رواه أحمد وابن ماجه وليس إسناده بذلك ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي سعيد الثاني أخرجه أيضا الترمذي والنسائي . قال الحافظ : ورجاله ثقات . [ ص: 234 ] وقال في مجمع الزوائد : رواه البزار وفيه موسى بن وردان وهو ثقة وقد ضعف ، وبقية رجاله ثقات . وأخرج نحوه النسائي من حديث جابر وأبي هريرة ، وجزم الطحاوي بكونه منسوخا وعكسه ابن حزم . وحديث عمر بن الخطاب في إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف ، ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس قال : { نهي عن عزل الحرة إلا بإذنها } وروى عنه ابن أبي شيبة أنه كان يعزل عن أمته ، وروى البيهقي عن ابن عمر مثله .

                                                                                                                                            ومن أحاديث هذا الباب عن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان وصححه { أن رجلا سأل عن العزل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا } وله شاهدان في الكبير للطبراني عن ابن عباس وفي الأوسط له عن ابن مسعود .

                                                                                                                                            قوله : ( كنا نعزل ) العزل : النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج . قوله : ( والقرآن ينزل ) فيه جواز الاستدلال بالتقرير من الله ورسوله على حكم من الأحكام ; لأنه لو كان ذلك الشيء حراما لم يقررا عليه ، ولكن بشرط أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ذهب الأكثر من أهل الأصول على ما حكاه في الفتح إلى أن الصحابي إذا أضاف الحكم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع ، قال : لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام ، قال : وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك . وأخرج مسلم من حديث جابر قال : { كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا } . ووقع في حديث الباب المذكور الإذن له بالعزل ، فقال : { اعزل عنها إن شئت } . قوله : ( ما عليكم أن لا تفعلوا ) وقع في رواية في البخاري وغيره : " لا عليكم أن لا تفعلوا " قال ابن سيرين : هذا أقرب إلى النهي .

                                                                                                                                            وحكى ابن عون عن الحسن أنه قال : والله لكان هذا زجرا . قال القرطبي : كأن هؤلاء فهموا من لا ، النهي عما سألوا عنه ، فكأنه قال : لا تعزلوا وعليكم أن لا تفعلوا ويكون قوله : " وعليكم " إلى آخره تأكيدا للنهي . وتعقب بأن الأصل عدم التقرير ، وإنما معناه : ليس عليكم أن تتركوا وهو الذي يساوي أن لا تفعلوا . وقال غيره : معنى لا عليكم أن لا تفعلوا : أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل ، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل ، ولو كان المراد نفي الحرج عن الفعل لقال : لا عليكم أن تفعلوا إلا أن يدعى أن لا زائدة ، فيقال : الأصل عدم ذلك .

                                                                                                                                            وقد اختلف السلف في حكم العزل ، فحكي في الفتح عن ابن عبد البر أنه قال : لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها ; لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل . قال الحافظ : ووافقه في نقل هذا الإجماع ابن هبيرة . قال : وتعقب بأن المعروف عند الشافعية أنه لا حق للمرأة [ ص: 235 ] في الجماع ، وهو أيضا مذهب الهادوية فيجوز عندهم العزل عن الحرة بغير إذنها على مقتضى قولهم : إنه لا حق لها في الوطء ، ولكنه وقع التصريح في كتب الهادوية بأنه لا يجوز العزل عن الحرة إلا برضاها ، ويدل على اعتبار الإذن من الحرة حديث عمرو المذكور ولكن فيه ما سلف .

                                                                                                                                            وأما الأمة فإن كانت زوجة فحكمها حكم الحرة . واختلفوا : هل يعتبر الإذن منها أو من سيدها وإن كانت سرية فقال في الفتح : يجوز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الروياني في المنع مطلقا كمذهب ابن حزم ، وإن كانت السرية مستولدة فالراجح الجواز فيها مطلقا لأنها ليست راسخة في الفراش . وقيل : حكمها حكم الأمة المزوجة . قوله : ( كذبت يهود ) فيه دليل على جواز العزل ، ومثله ما أخرجه الترمذي وصححه عن جابر قال : { كانت لنا جوار وكنا نعزل ، فقالت اليهود : إن تلك الموءودة الصغرى ، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : كذبت اليهود لو أراد الله خلقه لم يستطع رده } وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة ولكنه يعارض ذلك ما في حديث جذامة المذكور من تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الوأد الخفي .

                                                                                                                                            فمن العلماء من جمع بين هذا الحديث وما قبله ، فحمل هذا على التنزيه ، وهذه طريقة البيهقي . ومنهم من ضعف حديث جذامة هذا لمعارضته لما هو أكثر منه طرقا . قال الحافظ : وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم ، والحديث صحيح لا ريب فيه ، والجمع ممكن . ومنهم من ادعى أنه منسوخ ورد بعدم معرفة التاريخ . وقال الطحاوي : يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الأمر أولا من موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه ، ثم أعلمه الله بالحكم ، فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه وتعقبه ابن رشد وابن العربي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم شيئا تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم فيه . ومنهم من رجح حديث جذامة بثبوته في الصحيح وضعف مقابله بالاختلاف في إسناده والاضطراب . قال الحافظ : ورد بأنه إنما يقدح في حديث ، لا فيما يقوي بعضه بعضا فإنه يعمل به وهو هنا كذلك والجمع ممكن . ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها موافقة لأصل الإباحة وحديثها يدل على المنع . قال : فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه البيان . وتعقب بأن حديثها ليس بصريح في المنع إذ لا يلزم من تسميته وأدا خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما .

                                                                                                                                            وجمع ابن القيم فقال : الذي كذب فيه صلى الله عليه وسلم اليهود هو زعمهم أن العزل لا يتصور معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد فأكذبهم ، وأخبر أنه لا يمنع الحمل إذا شاء الله خلقه ، وإذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة ، وإنما سماه وأدا خفيا في حديث جذامة لأن الرجل إنما يعزل هربا من الحمل فأجرى قصده لذلك مجرى الوأد ، لكن الفرق بينهما أن الوأد . ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد والفعل ، والعزل يتعلق بالقصد فقط ، فلذلك وصفه بكونه [ ص: 236 ] خفيا وهذا الجمع قوي ، وقد ضعف أيضا حديث جذامة ، أعني الزيادة التي في آخره بأنه تفرد بها سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود ، ورواه مالك ويحيى بن أيوب عن أبي الأسود فلم يذكراها ، وبمعارضتها لجميع أحاديث الباب ، وقد حذف هذه الزيادة أهل السنن الأربع ، وقد احتج بحديث جذامة هذا من قال بالمنع من العزل كابن حبان . قوله : ( أشفق على ولدها ) هذا أحد الأمور التي تحمل على العزل . ومنها الفرار من كثرة العيال والفرار من حصولهم من الأصل . ومنها خشية علوق الزوجة الأمة لئلا يصير الولد رقيقا ، وكل ذلك لا يغني شيئا لاحتمال أن يقع الحمل بغير الاختيار .

                                                                                                                                            قوله : ( أن أنهى عن الغيلة ) بكسر الغين المعجمة بعدها تحتية ساكنة ، ويقال لها الغيل بفتح الغين والياء ، والغيال بكسر الغين المعجمة ; والمراد بها أن يجامع امرأته وهي مرضع . وقال ابن السكيت : هي أن ترضع المرأة وهي حامل وذلك لما يحصل على الرضيع من الضرر بالحبل حال إرضاعه ، فكان ذلك سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي ، ولكنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الغيلة لا تضر فارس والروم ترك النهي عنها .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية