الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            كتاب حد شارب الخمر [ ص: 165 ] عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين } ، قال : وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن : أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3162 - ( وعن أنس { : أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال } ، وجلد أبو بكر أربعين . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3163 - ( وعن عقبة بن الحارث قال : { جيء بالنعمان أو ابن النعمان شاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه فضربناه بالنعال والجريد } ) .

                                                                                                                                            3164 - ( وعن السائب بن يزيد قال { : كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرا من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ، حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين ، حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين } . رواهما أحمد والبخاري ) .

                                                                                                                                            3165 - ( وعن أبي هريرة قال { : أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب ، فقال : اضربوه فقال أبو هريرة : فمنا الضارب بيده ، والضارب بنعله ، والضارب بثوبه ، فلما انصرف قال بعض القوم : أخزاك الله . قال : لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان } . رواه أحمد والبخاري وأبو داود ) .

                                                                                                                                            3166 - ( وعن حضين بن المنذر قال { : شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد [ ص: 166 ] صلى الصبح ركعتين ، ثم قال : أزيدكم ، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ، فقال عثمان : إنه لم يتقيأ حتى شربها ، فقال : يا علي قم فاجلده ، فقال علي : قم يا حسن فاجلده ، فقال الحسن : ول حارها من تولى قارها ، فكأنه وجد عليه ، فقال : يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده ، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال : أمسك ، ثم قال : جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي } . رواه مسلم ، وفيه من الفقه أن للوكيل أن يوكل وأن الشهادتين على شيئين إذا آل معناهما إلى شيء واحد جمعا جائزة كالشهادة على البيع والإقرار به ، أو على القتل والإقرار به ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( قد شرب الخمر ) اعلم أن الخمر يطلق على عصير العنب المشتد إطلاقا حقيقيا إجماعا . واختلفوا هل يطلق على غيره حقيقة أو مجازا ؟ وعلى الثاني هل مجاز لغة كما جزم به صاحب المحكم ؟ قال صاحب الهداية من الحنفية : الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد ، وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم انتهى . أو من باب القياس على الخمر الحقيقية عند من يثبت التسمية بالقياس . وقد صرح في الراغب أن الخمر عند البعض اسم لكل مسكر وعند بعض للمتخذ من العنب والتمر ، وعند بعضهم لغير المطبوخ ، ورجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرا لأنها سميت بذلك لمخامرتها للعقل وسترها له ، وكذا قال جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري وأبو نصر القشيري والدينوري وصاحب القاموس ، ويؤيد ذلك أنها حرمت بالمدينة وما كان شرابهم يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر . ويؤيده أيضا أن الخمر في الأصل : الستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها ، والتغطية ومنه : { خمروا آنيتكم } أي غطوها ، والمخالطة ومنه خامره داء : أي خالطه ، والإدراك ومنه اختمر العجين : أي بلغ وقت إدراكه .

                                                                                                                                            قال ابن عبد البر : الأوجه كلها موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت وسكنت ، فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه وتغطيه . ونقل عن ابن الأعرابي أنه قال : سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى اختمرت ، واختمارها تغير رائحتها . قال الخطابي : زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب ، فيقال لهم : إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء ، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه انتهى . ويجاب بإمكان أن يكون ذلك الإطلاق الواقع منهم شرعيا لا لغويا ، وأما الاستدلال على اختصاص الخمر بعصير العنب بقوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } ففاسد لأن الصيغة لا دليل فيها على الحصر المدعى وذكر شيء بحكم لا ينفي ما عداه .

                                                                                                                                            وقد روى ابن عبد البر عن أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم أن كل مسكر خمر . وقال القرطبي : الأحاديث الواردة [ ص: 167 ] عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب ، وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر ، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة ; لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر بالاجتناب تحريم كل ما يسكر ، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن ، فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم .

                                                                                                                                            وقد أخرج أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من الحنطة خمر ، ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ، ومن الزبيب خمر ، ومن العسل خمر } .

                                                                                                                                            وروي أيضا أنه خطب عمر على المنبر وقال : " ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل " . وهو في الصحيحين وغيرهما وهو من أهل اللغة

                                                                                                                                            . وتعقب بأن ذلك يمكن أن يكون إطلاقا للاسم الشرعي لا اللغوي فيكون حقيقة شرعية . قال ابن المنذر : القائل بأن الخمر من العنب وغيره عمر وعلي وسعد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة ، ومن غيرهم ابن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث . وحكاه في البحر عن الجماعة المذكورين من الصحابة إلا أبا موسى وعائشة وعن المذكورين من غيرهم إلا ابن المسيب ، وزاد العترة ومالكا والأوزاعي وقال : إنه يكفر مستحل خمر الشجرتين ، ويفسق مستحل ما عداهما ولا يكفر لهذا الخلاف ، ثم قال : فرع : وتحريم سائر المسكرات بالسنة والقياس فقط إذ لا يسمى خمرا إلا مجازا . وقيل : بهما وبالقرآن لتسميتها خمرا في حديث : { إن من التمر خمرا } الخبر ، وقول أبي موسى وابن عمر : " الخمر ما خامر العقل " قلنا : مجازا انتهى . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أحاديث : منها ما هو بلفظ : { كل مسكر خمر . كل مسكر حرام } ومنها ما هو بلفظ : { كل شراب أسكر فهو حرام } وهذا لا يفيد المطلوب وهو كونها حقيقة في غير عصير العنب ، أو مجازا لأن هذه الأحاديث غاية ما يثبت بها أن المسكر على عمومه يقال له : خمر ويحكم بتحريمه ، وهذه حقيقة شرعية لا لغوية ، وقد صرح الخطابي بمثل هذا وقال : إن مسمى الخمر كان مجهولا عند المخاطبين حتى بينه الشارع بأنه ما أسكر فصار ذلك كلفظ الصلاة والزكاة وغيرهما من الحقائق الشرعية ، وقد عرفت ما سلف عن أهل اللغة من الخلاف .

                                                                                                                                            قوله : ( فجلد بجريدتين نحو أربعين ) الجريد سعف النخل .

                                                                                                                                            وفي ذلك دليل على مشروعية أن يكون الجلد بالجريد ، وإليه ذهب بعض الشافعية . وقد صرح القاضي أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط . [ ص: 168 ] وصرح القاضي حسين بتعين السوط ، واحتج بأنه إجماع الصحابة ، وخالفه النووي في شرح مسلم فقال : أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب ثم قال : والأصح جوازه بالسوط . وحكى الحافظ عن بعض المتأخرين أنه يتعين السوط للمتمردين وأطراف الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم ، وهذه الرواية مصرحة بأن الأربعين كانت بجريدتين .

                                                                                                                                            وفي رواية للنسائي { أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه بالنعال نحوا من أربعين } وفي رواية لأحمد والبيهقي { فأمر نحوا من عشرين رجلا فجلده كل واحد جلدتين بالجريد والنعال } فيجمع بأن جملة الضربات كانت نحو أربعين إلا أن كل جلدة بجريدتين ، وهذا الجمع باعتبار مجرد الضرب بالجريد وهو مبين لما أجمل في الرواية المذكورة في حديث أنس بلفظ إن النبي صلى الله عليه وسلم { جلد في الخمر بالجريد والنعال } وكذلك ما في سائر الروايات المجملة . ولكن الجمع بين الضرب بالجريد والنعال في روايات الباب يدل على أن الضرب بهما غير مقدر بحد ; لأنها إذا كانت الضربات بالجريد مقدرة بذلك المقدار فلم يأت ما يدل على تقدير الضربات بالنعال إلا رواية النسائي المتقدمة فإنها مصرحة أن الضرب كان بالنعال فقط نحوا من أربعين .

                                                                                                                                            وورد أيضا الضرب بالأردية كما في رواية السائب بن يزيد المذكورة .

                                                                                                                                            وفي حديث علي المذكور في جلد الوليد تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين ، وهو يخالف ما سيأتي من حديثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في ذلك سنة " . ويمكن الجمع بأن المراد بالسنة المذكورة في الحديث الآتي هي الطريقة المستمرة وفعل الأربعين في مرة واحدة لا يستلزم أن يكون ذلك سنة مع عدم الاستمرار كما في سائر الروايات . وقيل تحمل رواية الأربعين على التقريب دون التحديد . ويمكن الجمع أيضا بما سيأتي أنه جلد الوليد بسوط له طرفان فكان الضرب باعتبار المجموع أربعين وبالنظر إلى الحاصل من كل واحد من الطرفين ثمانين .

                                                                                                                                            وقد ضعف الطحاوي هذه الرواية التي فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين لعبد الله بن فيروز ، أو يجاب بأنه قد قوى الحديث البخاري كما روى ذلك الترمذي عنه . ووثق عبد الله المذكور أبو زرعة والنسائي ، وإخراج مسلم له دليل على أنه من المقبولين . وقال ابن عبد البر : إن هذا الحديث أثبت شيء في هذا الباب ، واستدل الطحاوي على ضعف الحديث بقوله فيه : " وكل سنة . . . إلخ " قال لأن عليا لا يرجح فعل عمر على فعل النبي بناء منه على أن قول علي " وهذا أحب إلي إشارة إلى الثمانين التي فعلها عمر ، وليس الأمر كذلك بل المشار إليه هو الجلد الواقع بين يديه في تلك الحال وهو أربعون كما يشعر بذلك الظاهر ولكنه يشكل من وجه آخر ، وهو أن الكل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعمر لا يكون سنة ، بل السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقط . وقد قيل إن المراد أن ذلك جائز قد وقع لا محذور فيه .

                                                                                                                                            ويمكن أن يقال إن إطلاق السنة [ ص: 169 ] على فعل الخلفاء لا بأس به لما في حديث العرباض بن سارية عند أهل السنن بلفظ : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ } الحديث . ويمكن أن يقال المراد بالسنة الطريقة المألوفة وقد ألف الناس ذلك في زمن عمر كما ألفوا الأربعين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر . قوله : ( أخف الحدود ثمانين ) هكذا ثبت بالياء . قال ابن دقيق العيد : حذف عامل النصب ، والتقدير اجعله ثمانين . وقيل التقدير اجلده ثمانين . وقيل : التقدير أرى أن نجعله ثمانين . قوله ( : النعمان أو ابن النعمان ) هكذا في نسخ هذا الكتاب مكبرا . وفي صحيح البخاري : النعيمان أو ابن النعيمان بالتصغير . قوله : ( وعن حضين ) بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة . قوله : ( لا تعينوا عليه الشيطان ) في ذلك دليل على أنه لا يجوز الدعاء على من أقيم عليه الحد لما في ذلك من إعانة الشيطان عليه ، وقد تقدم في حديث جلد الأمة النهي للسيد عن التثريب عليها ، وتقدم أيضا { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر السارق بالتوبة ، فلما تاب قال : تاب الله عليك } .

                                                                                                                                            وهكذا ينبغي أن يكون الأمر في سائر المحدودين . قوله : ( إنه لم يتقيأ حتى شربها ) فيه دليل على أنه يكفي في ثبوت حد الشرب شاهدان أحدهم يشهد على الشرب والآخر على القيء ووجه الاستدلال بذلك أنه وقع بمجمع من الصحابة ولم ينكر ، وإليه ذهب مالك والناصر والقاسمية . وذهبت الشافعية والحنفية إلى أنه لا يكفي ذلك الاحتمال لإمكان أن يكون المتقيئ لها مكرها على شربها أو نحو ذلك . قوله : ( ول حارها ) بحاء مهملة وبعد الألف راء مشددة : قال في القاموس : والحار من العمل : شاقه وشديده . ا هـ . وقارها بالقاف وبعد الألف راء مشددة : أي ما لا مشقة فيه من الأعمال ، والمراد : ول الأعمال الشاقة من تولى الأعمال التي لا مشقة فيها ، استعار للمشقة الحر ، ولما لا مشقة فيه البرد . قوله : ( جمعا ) بضم الجيم وفتح الميم والعين لفظ تأكيد للشهادتين كما يقال جمع لتأكيد ما فوق الاثنتين .

                                                                                                                                            وفي بعض النسخ جميعا وهو الصواب .

                                                                                                                                            والأحاديث المذكورة في الباب فيها دليل على مشروعية حد الشرب ، وقد ادعى القاضي عياض الإجماع على ذلك . وقال في البحر : مسألة : " ولا ينقص حده عن الأربعين إجماعا " وذكر أن الخلاف إنما هو في الزيادة على الأربعين . وحكى ابن المنذر والطبري وغيرهما عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها ، وإنما فيها التعزير ، واستدلوا بالأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة من الضرب بالجريد والنعال والأردية وبما أخرجه عبد الرزاق عن الزهري { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرض في الخمر حدا ، وإنما كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم : ارفعوا } وخرج أبو داود بسند قوي عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا } ، ومما سيأتي في باب من وجد منه سكر أو ريح .

                                                                                                                                            وأجيب بأنه قد تعقب [ ص: 170 ] إجماع الصحابة على جلد الشارب ، واختلافهم في العدد إنما هو بعد الاتفاق على ثبوت مطلق الجلد ، وسيأتي في الباب المشار إليه الجواب عن بعض ما تمسكوا به . وقد ذهبت العترة ومالك والليث وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي في قول له إلى أن حد السكران ثمانون جلدة . وذهب أحمد وداود وأبو ثور والشافعي في المشهور عنه إلى أنه أربعون لأنها هي التي كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وفعلها علي في زمن عثمان كما سلف . واستدل الأولون بأن عمر جلد ثمانين بعدما استشار الصحابة كما سلف ، وبما سيأتي عن علي أنه أفتى بأنه يجلد ثمانين ، وبما في حديث أنس المذكور { أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر نحو أربعين بجريدتين }

                                                                                                                                            والحاصل أن دعوى إجماع الصحابة غير مسلمة ، فإن اختلافهم في ذلك قبل إمارة عمر وبعدها وردت به الروايات الصحيحة ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الاقتصار على مقدار معين بل جلد تارة بالجريد وتارة بالنعال وتارة بهما فقط وتارة بهما مع الثياب وتارة بالأيدي والنعال ، والمنقول من المقادير في ذلك إنما هو بطريق التخمين ، ولهذا قال أنس : نحو أربعين ، والجزم المذكور في رواية علي بالأربعين يعارضه ما سيأتي من أنه ليس في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ، فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال وتكون جميعها جائزة فأيها وقع فقد حصل به الجلد المشروع الذي أرشدنا إليه صلى الله عليه وسلم بالفعل والقول كما في حديث { من شرب الخمر فاجلدوه } وسيأتي ، فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة بين يديه ، ولا دليل يقتضي تحتم مقدار معين لا يجوز غيره .

                                                                                                                                            لا يقال : الزيادة مقبولة فيتعين المصير إليها وهي رواية الثمانين ; لأنا نقول : هي زيادة شاذة لم يذكرها إلا ابن دحية فإنه قال في كتاب وهج الجمر في تحريم الخمر : صح عن عمر أنه قال : لقد هممت أن أكتب في المصحف { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين } . وقد قال الحافظ في التلخيص : إنه لم يسبق ابن دحية إلى تصحيحه . وحكى ابن الطلاع أن في مصنف عبد الرزاق { أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين } وورد من طريق لا تصح أنه جلد ثمانين انتهى .

                                                                                                                                            وهكذا ما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أزهر { أنه صلى الله عليه وسلم أمر بجلد الشارب أربعين } فإنه قال ابن أبي حاتم في العلل : سأل أبي عنه فقال : لم يسمعه الزهري عن عبد الرحمن بل عن عقيل بن خالد عنه ولو صح لكان من جملة الأنواع التي يجوز فعلها ، لا أنه هو المتعين لمعارضة غيره له على أنه قد رواه الشافعي عن عبد الرحمن المذكور : { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب فقال : اضربوه ، فضربوه بالأيدي والنعال } ومن ذلك حديث أبي سعيد عند الترمذي وقال : حسن ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بنعلين أربعين } وسيأتي ومما يؤيد عدم ثبوت مقدار معين عنه صلى الله عليه وسلم طلب عمر للمشورة من الصحابة ، فأشاروا عليه بآرائهم ، ولو كان قد ثبت تقديره عنه صلى الله عليه وسلم لما جهله جميع أكابر الصحابة




                                                                                                                                            الخدمات العلمية