الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            3561 - ( وعن ابن عباس أن رسول الله قال - صلى الله عليه وسلم - : { إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة ، وكل مسكر حرام } رواه أحمد والكوبة : الطبل ، قاله سفيان عن علي بن بذيمة ، وقال ابن الأعرابي : الكوبة : النرد ، وقيل البربط ، والقنين : هو الطنبور بالحبشية ، والتقنين الضرب به ، قاله ابن الأعرابي ) . [ ص: 111 ]

                                                                                                                                            3562 - ( وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف ، فقال رجل من المسلمين : يا رسول الله ومتى ذلك ؟ قال : إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور } رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب )

                                                                                                                                            3563 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : - صلى الله عليه وسلم - { إذا اتخذ الفيء دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وتعلم لغير الدين ، وأطاع الرجل امرأته ، وعق أمه ، وأدنى صديقه ، وأقصى أباه ، وظهرت الأصوات في المساجد ، وساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وظهرت القيان والمعازف ، وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها ، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه بعضا } رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب ) .

                                                                                                                                            3564 - ( وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ، ثم يصبحون قردة وخنازير ، وتبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات } رواه أحمد ، وفي إسناده فرقد السبخي ، قال أحمد : ليس بقوي ، وقال ابن معين : هو ثقة ، وقال الترمذي : تكلم فيه يحيى بن سعيد ، وقد روى عنه الناس ) .

                                                                                                                                            3565 - ( وعن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين ، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات - يعني البرابط - والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية } رواه أحمد قال البخاري : عبيد الله بن زحر ثقة ، وعلي بن يزيد ضعيف ، والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن ثقة ، وبهذا الإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { لا تبيعوا القينات ، ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ، ولا خير في تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } } إلى آخر الآية . رواه الترمذي ، ولأحمد معناه ، ولم يذكر نزول الآية فيه ، [ ص: 112 ] ورواه الحميدي في مسنده ، ولفظه : { لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا الاستماع إليها } )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث ابن عباس قد تقدم أنه أخرجه أيضا أبو داود وابن حبان والبيهقي وحديث عمران بن حصين قال الترمذي بعد إخراجه عن عباد بن يعقوب الكوفي : حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش . عن هلال بن يساف عن عمران ما لفظه : وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن عبد الرحمن بن ساباط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، وهذا حديث غريب وحديث أبي هريرة قال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق علي بن حجر : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن المسلم بن سعيد عن رميح الجذامي عنه ما لفظه : وفي الباب عن علي ، وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه

                                                                                                                                            وحديث علي هذا الذي أشار إليه هو ما أخرجه في سننه قبل حديث أبي هريرة عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء ، وفيه : وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت القيان والمعازف } وقال بعد تعداد الخصال : هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة ، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث ، وضعفه من قبل حفظه ، وقد روى عنه وكيع وغير واحد من الأئمة انتهى وحديث أبي أمامة الأول والثاني قد تكلم المصنف عليهما . وحديثه الثالث قال الترمذي بعد إخراجه : إنما يعرف مثل هذا من هذا الوجه . وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي انتهى . وأخرجه أيضا ابن ماجه وسعيد بن منصور والواحدي وعبيد الله بن زحر قال أبو مسهر : إنه صاحب كل معضلة . وقال ابن معين : ضعيف . وقال مرة : ليس بشيء . وقال ابن المديني : منكر الحديث . وقال الدارقطني : ليس بالقوي . وقال ابن حبان : روى موضوعات عن الإثبات ، وإذا روي عن علي بن يزيد أتى بالطامات وفي الباب عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال في قوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال : هو والله الغناء وأخرجه الحاكم والبيهقي وصححاه . وأخرجه البيهقي أيضا عن ابن عباس بلفظ : " هو الغناء وأشباهه " وفي الباب أيضا عن ابن مسعود عند أبي داود والبيهقي مرفوعا بلفظ { الغناء ينبت النفاق في القلب } وفيه شيخ لم يسم . ورواه البيهقي موقوفا . وأخرجه ابن عدي من حديث أبي هريرة وقال ابن طاهر : أصح الأسانيد في ذلك أنه من قول إبراهيم وأخرج أبو يعقوب محمد بن إسحاق النيسابوري من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { من قعد [ ص: 113 ] إلى قينة يسمع صب في أذنه الآنك } . وأخرج أيضا من حديث ابن مسعود { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يتغنى من الليل فقال : لا صلاة له ، لا صلاة له ، لا صلاة له } .

                                                                                                                                            وأخرج أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها كفر } وروى ابن غيلان عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { بعثت بكسر المزامير } وقال - صلى الله عليه وسلم - : { كسب المغني والمغنية حرام } وكذا رواه الطبراني من حديث عمر مرفوعا { ثمن القينة سحت وغناؤها حرام } وأخرج القاسم بن سلام عن علي { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ضرب الدف والطبل وصوت الزمارة } .

                                                                                                                                            وفي الباب أحاديث كثيرة . وقد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك مصنفات ولكنه ضعفها جميعا بعض أهل العلم حتى قال ابن حزم : إنه لا يصح في الباب حديث أبدا ، وكل ما فيه فموضوع . وزعم أن حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري المذكور في أول الباب منقطع فيما بين البخاري وهشام وقد وافقه على تضعيف أحاديث الباب من سيأتي قريبا . قال الحافظ في الفتح : وأخطأ في ذلك ، يعني في دعوى الانقطاع من وجوه ، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث في موضع آخر من كتابه ، وأطال الكلام على ذلك بما يشفي .

                                                                                                                                            قوله : ( الكبارات ) جمع الكبار . قال في القاموس في مادة ك ب ر : والطبل جمع الكبار وأكبار انتهى . والبربط : العود . قال في القاموس : البربط كجعفر معرب بربط : أي صدر الإوز لأنه يشبهه انتهى . وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها . فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف . وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع . وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا ويصوغ الألحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره ، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي وقال إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم : نقل الإثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات ، وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود فقال : ما هذا يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناوله إياه ، فتأمله ابن عمر فقال : هذا ميزان شامي ، قال ابن الزبير : يوزن به العقول

                                                                                                                                            وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال : إن رجلا قدم المدينة بجوار فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب ، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئا ، قال : انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا ؟ قال من هو ؟ قال عبد الله بن جعفر ، فعرضهن عليه ، [ ص: 114 ] فأمر جارية منهن فقال لها : خذي العود ، فأخذته فغنت فبايعه ، ثم جاء إلى ابن عمر إلى آخر القصة وروى صاحب العقد العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي : أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ثم قال لابن عمر : هل ترى بذلك بأسا ؟ قال : لا بأس بهذا وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص أنهم سمعا العود عند ابن جعفر وروى أبو الفرج الأصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره . وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك ، والمزهر عند أهل اللغة : العود وذكر الإدفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة .

                                                                                                                                            ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس ونقله ابن قتيبة وصاحب الإمتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين . ونقله أبو يعلى الخليلي في الإرشاد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون مفتي المدينة وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف . وحكى الأستاذ أبو منصور والفوراني عن مالك جواز العود . وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور . وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود

                                                                                                                                            . قال ابن النحوي في العمدة : قال ابن طاهر : هو إجماع أهل المدينة قال ابن طاهر : وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة . قال الأدفوي : لم يختلف النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر ، وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم . وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية . وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي وحكاه الإسنوي في المهمات عن الروياني والماوردي ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي ، وجزم بالإباحة الأدفوي هؤلاء جميعا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة .

                                                                                                                                            وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي في الإمتاع : إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية : نقل الاتفاق على حله . ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه . ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه . ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضا إجماع أهل المدينة عليه . وقال الماوردي : لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر .

                                                                                                                                            قال ابن النحوي في العمدة : وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين ، فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة ، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي ، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة ، [ ص: 115 ] وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي وبلال وعبد الله بن الأرقم وأسامة بن زيد كما البيهقي أيضا ، وحمزة كما في الصحيح ، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر ، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم ، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر . وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني ، وعبد الله بن عمر كما رواه الزبير بن بكار ، وقرظة بن بكار كما رواه ابن قتيبة ، وخوات بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب الأغاني ، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي ، وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي ، وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره

                                                                                                                                            وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمر وابن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري وأما تابعوهم فخلق لا يحصون ، منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية . انتهى كلام ابن النحوي واختلف هؤلاء المجوزون ، فمنهم من قال بكراهته ، ومنهم من قال باستحبابه . قالوا : لكونه يرق القلب ويهيج الأحزان والشوق إلى الله .

                                                                                                                                            قال المجوزون : إنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات . وأما المانعون من ذلك فاستدلوا بأدلة منها حديث أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول الباب . وأجاب المجوزون بأجوبة : الأول ما قاله ابن حزم وقد تقدم ، وتقدم جوابه . والثاني أن في إسناده صدقة بن خالد وقد حكى ابن الجنيد عن يحيى بن معين أنه ليس بشيء . وروى المزي عن أحمد أنه ليس بمستقيم . ويجاب عنه بأنه من رجال الصحيح .

                                                                                                                                            ثالثها أن الحديث مضطرب سندا ومتنا أما الإسناد فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم . وأما متنا فلأن في بعض الألفاظ يستحلون وفي بعضها بدونه . وعند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ { ليشربن أناس من أمتي الخمر } وفي رواية الحر بمهملتين ، وفي أخرى بمعجمتين كما سلف . ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد رواه أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي مالك بغير شك ورواه أبو داود من حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن داسة عن أبي داود ورواية ابن حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين . فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعا وأما الاضطراب في المتن فيجاب بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال ; لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى .

                                                                                                                                            والرابع أن لفظة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره . وثبتت في الصحيح ، والزيادة من العدل مقبولة . وأجاب المجوزون أيضا [ ص: 116 ] على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا : لا نسلم دلالته على التحريم . وأسندوا هذا المنع بوجوه : أحدها أن لفظة " يستحلون " ليست نصا في تحريم ، فقد ذكر أبو بكر بن العربي لذلك معنيين : أحدهما : أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال . الثاني : أن يكون مجازا عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور . ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد يشعر بتحريم الملابسة بفحوى الخطاب . وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا ملجأ إلى الخروج عنها .

                                                                                                                                            وثانيها : أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف ، وإذا كان اللفظ محتملا لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال ; لأنه إما أن يكون مشتركا والراجح التوقف فيه أو حقيقة ومجازا ولا يتعين المعنى الحقيقي . ويجاب بأنه يدل على تحريم استعمال ما صدق عليه الاسم ، والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص عليها من أهل اللغة وليس من قبيل المشترك لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد على حدة بل وضع للجميع ، على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم التضاد كما تقرر في الأصول . وثالثها : أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ { ليشربن أناس من أمتي الخمر تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف } .

                                                                                                                                            ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف ، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله . وأيضا يلزم في مثل قوله تعالى - { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين } - أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر . فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف ، على أنه لا ملجأ إلى ذلك حتى يصار إليه .

                                                                                                                                            ورابعها أن يكون المراد يستحلون مجموع الأمور المذكورة فلا يدل على تحريم واحد منها على الانفراد . وقد تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة أو الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها . ويجاب عنه بما تقدم في الذي قبله . واستدلوا ثانيا بالأحاديث المذكورة في الباب التي أوردها المصنف رحمه الله تعالى. وأجاب عنها المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها . ويجاب بأنه تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن بعضها ، فأقل أحوالها أن تكون من قسم الحسن لغيره ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات المغنيات فإنها ثابتة من طرق كثيرة منها ما تقدم ومنها غيره .

                                                                                                                                            وقد استوفيت ذلك في رسالة . وكذلك حديث { إن الغناء ينبت النفاق } فإنه ثابت من طرق قد تقدم بعضها وبعضها لم يذكر منه عن ابن عباس عند ابن صصرى في أماليه . ومنه عن جابر عند البيهقي ومنه عن أنس عند الديلمي في الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي . [ ص: 117 ] وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي بلفظ { صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة ، مزمار عند نعمة ، ورنة عند مصيبة } . وأخرج ابن سعد في السنن عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال { إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نعمة لهو ولعب مزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان } .

                                                                                                                                            وأخرج الديلمي عن أبي أمامة مرفوعا { إن الله يبغض صوت الخلخال كما يبغض الغناء } والأحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جميعها جماعة من العلماء كابن حزم وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الإربلي والذهبي وغيرهم .

                                                                                                                                            وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية ، وقد تقدم ما قاله ابن حزم ووافقه على ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام وقال : لم يصح في التحريم شيء ، وكذلك قال الغزالي وابن النحوي في العمدة ، وهكذا قال ابن طاهر : إنه لم يصح منها حرف واحد ، والمراد ما هو مرفوع منها ، وإلا فحديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } قد تقدم أنه صحيح ، وقد ذكر هذا الاستثناء ابن حزم فقال : إنهم لو أسندوا حديثا واحدا فهو إلى غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا حجة في أحد دونه كما روي عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى: { ومن الناس } الآية ، أنهما فسرا اللهو بالغناء .

                                                                                                                                            قال : ونص الآية يبطل احتجاجهم لقوله تعالى: { ليضل عن سبيل الله } وهذه صفة من فعلها كان كافرا ، ولو أن شخصا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا لكان كافرا ، فهذا هو الذي ذم الله تعالى ، وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروح به نفسه لا ليضل به عن سبيل الله انتهى .

                                                                                                                                            قال الفاكهاني : لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي ، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها لا أدلة قطعية .

                                                                                                                                            وقد استدل ابن رشد بقوله تعالى : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء ، وللمفسرين فيها أربعة أقوال : الأول : أنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا ، فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم فيعرضون عنهم . والثاني : أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود من التوراة وبدلوا من نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق . والثالث : أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه . والرابع : أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهودا ولا نصارى وكانوا على دين الله ، كانوا ينتظرون بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعوا به بمكة أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا ، وكان الكفار من قريش يقولون لهم : أف لكم اتبعتم غلاما كرهه قومه وهم أعلم به منكم .

                                                                                                                                            وهذا الأخير قاله ابن العربي في أحكامه ، وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية انتهى . ويجاب بأن الاعتبار بعموم اللفظ [ ص: 118 ] لا بخصوص السبب ، واللغو عام ، وهو في اللغة الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه . والآية خارجة مخرج المدح لمن فعل ذلك ، وليس فيها دلالة على الوجوب . ومن جملة ما استدلوا به حديث { كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه فرسه ، ورميه عن قوسه } قال الغزالي : قلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - " فهو باطل " لا يدل على التحريم ، بل يدل على عدم فائدة انتهى .

                                                                                                                                            وهو جواب صحيح لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح . على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك الأمور الثلاثة . وأجاب المجوزون عن حديث ابن عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من أنه حديث منكر . وأيضا لو كان سماعه حراما لما أباحه - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر ولا ابن عمر لنافع ولنهى عنه وأمره بكسر الآلة ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

                                                                                                                                            وأما سده - صلى الله عليه وسلم - لسمعه فيحتمل أنه تجنبه كما كان يتجنب كثيرا من المباحات كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال ذلك . لا يقال يحتمل أن تركه - صلى الله عليه وسلم - للإنكار على الراعي إنما كان لعدم القدرة على التغيير .

                                                                                                                                            لأنا نقول : ابن عمر إنما صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة بعد ظهور الإسلام وقوته ، فترك الإنكار فيه دليل على عدم التحريم . وقد استدل المجوزون بأدلة منها ، قوله تعالى: { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلى باللام فيشمل كل طيب ، والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الأكثر المتبادر إلى الفهم عند التجرد عن القرائن ، ويطلق بإزاء الظاهر والحلال ، وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها ، ولو قصرنا العام على بعض أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر .

                                                                                                                                            وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل الأحكام أن المراد في الآية بالطيبات : المستلذات ومن جملة ما استدل به المجوزون ما سيأتي في الباب الذي بعد هذا وسيأتي الكلام عليه . ومن جملة ما قاله المجوزون أنا لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه لهوا لكان جميع ما في الدنيا محرما لأنه لهو لقوله تعالى: { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوا ، بل الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث المنصوص عليه في القرآن لكنه لما علل في الآية بعلة الإضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج الفريقين ، فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح { ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه } ولا سيما إذا كان مشتملا على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال ومعاقرة العقار وخلع العذار والوقار ، فإن [ ص: 119 ] سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف ، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول ، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول ، نسأل الله السداد والثبات .

                                                                                                                                            ومن أراد الاستيفاء للبحث في هذه المسألة فعليه بالرسالة التي سميتها : إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية