الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( إن يدعون من دونه إلا إناثا )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى ومناة ، فسماهن الله "إناثا" ، بتسمية المشركين إياهن بتسمية الإناث .

ذكر من قال ذلك :

10430 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : اللات والعزى ومناة ، كلها مؤنث .

10431 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك بنحوه إلا أنه قال : كلهن مؤنث .

10432 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، يقول : يسمونهم "إناثا" : لات ومناة وعزى .

10433 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : آلهتهم ، اللات والعزى ويساف [ ص: 208 ] ونائلة ، إناث ، يدعونهم من دون الله . وقرأ : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " .

وقال آخرون : معنى ذلك : إن يدعون من دونه إلا مواتا لا روح فيه .

ذكر من قال ذلك :

10434 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، يقول : ميتا .

10435 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، أي : إلا ميتا لا روح فيه .

10436 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : و "الإناث" كل شيء ميت ليس فيه روح : خشبة يابسة أو حجر يابس ، قال الله تعالى : " وإن يدعون إلا شيطانا مريدا " إلى قوله : "فليبتكن آذان الأنعام" .

وقال آخرون : عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون : "الملائكة بنات الله" .

ذكر من قال ذلك :

10437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا [ ص: 209 ] جويبر ، عن الضحاك في قوله : " إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، قال : الملائكة ، يزعمون أنهم بنات الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : أن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم "إناثا" ، فأنزل الله ذلك كذلك .

ذكر من قال ذلك :

10438 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن نوح بن قيس ، عن أبي رجاء ، عن الحسن قال : كان لكل حي من أحياء العرب صنم ، يسمونها "أنثى بني فلان" ، فأنزل الله " إن يدعون من دونه إلا إناثا " .

10439 - حدثني المثنى قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا نوح بن قيس قال : حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحداني قال : سمعت الحسن يقول : كان لكل حي من العرب ، فذكر نحوه .

وقال آخرون : "الإناث" في هذا الموضع ، الأوثان .

ذكر من قال ذلك :

10440 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "إناثا" قال : أوثانا . [ ص: 210 ]

10441 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

10442 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كان في مصحف عائشة : "إن يدعون من دونه إلا أوثانا" .

قال أبو جعفر : روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : "إن يدعون من دونه إلا أثنا" بمعنى جمع "وثن" فكأنه جمع "وثنا" "وثنا" ، ثم قلب الواو همزة مضمومة ، كما قيل : "ما أحسن هذه الأجوه" ، بمعنى الوجوه وكما قيل : ( وإذا الرسل أقتت ) [ سورة المرسلات : 11 ] ، بمعنى : وقتت .

وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك : "إن يدعون من دونه إلا أنثا" كأنه أراد جمع "الإناث" فجمعها "أنثا" ، كما تجمع "الثمار" "ثمرا" .

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز القراءة بغيرها ، قراءة من قرأ : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) ، بمعنى جمع "أنثى" ، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين ، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك ، إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت ، تأويل من قال : عني بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء ، كاللات والعزى ونائلة ومناة ، وما أشبه ذلك . [ ص: 211 ]

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الأظهر من معاني "الإناث" في كلام العرب ، ما عرف بالتأنيث دون غيره . فإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه .

وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن يدعون من دونه إلا إناثا " ، يقول : ما يدعو الذين يشاقون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئا من دون الله بعد الله وسواه ، إلا إناثا يعني : إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك . يقول جل ثناؤه : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله ، وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد ، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل ، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة وأربابا ، والإناث من كل شيء أخسه ، فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودة ، على علم منهم بخساسته ، ويمتنعون من إخلاص العبودة للذي له ملك كل شيء ، وبيده الخلق والأمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية