الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " اليوم أحل لكم الطيبات " ، اليوم أحل لكم ، أيها المؤمنون ، الحلال من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها .

وقوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، وذبائح أهل الكتاب من [ ص: 573 ] اليهود والنصارى وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنزل عليهم ، فدانوا بهما أو بأحدهما "حل لكم" يقول : حلال لكم ، أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام . فإن من لم يكن منهم ممن أقر بتوحيد الله عز ذكره ودان دين أهل الكتاب ، فحرام عليكم ذبائحهم .

ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب " ، من أهل الكتاب .

فقال بعضهم : عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل ، أو ممن دخل في ملتهم فدان دينهم ، وحرم ما حرموا ، وحلل ما حللوا ، منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم .

ذكر من قال ذلك :

11220 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا خصيف قال : حدثنا عكرمة قال : سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب ، فقرأ هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود ) إلى قوله : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ، الآية [ سورة المائدة : 51 ] .

11221 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان : عن عاصم الأحول ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .

11222 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن عثمة قال : حدثنا سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة : أنهما كانا لا يريان بأسا بذبائح نصارى [ ص: 574 ] بني تغلب ، وبتزوج نسائهم ، ويتلوان : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) .

11223 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب : أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب .

11224 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن الشعبي : أنه كان لا يرى بأسا بذبائح نصارى بني تغلب ، وقرأ : ( وما كان ربك نسيا ) ، [ سورة مريم : 64 ] .

11225 - حدثني ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج قال : حدثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب ، قال : تؤكل من أجل أنهم في الدين أهل كتاب ، ويذكرون اسم الله .

11226 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا ابن جريج قال : قال عطاء : إنما يقرون بدين ذلك الكتاب .

11227 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية قال : حدثنا شعبة قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب ، فقالوا : لا بأس بها . قال : وقرأ الحكم : ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) ، [ سورة البقرة : 78 ] .

11228 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كلوا من ذبائح بني تغلب ، وتزوجوا من نسائهم ، فإن الله قال في كتابه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) [ سورة المائدة : 51 ] ، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية ، لكانوا منهم .

[ ص: 575 ]

11229 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة : أن الحسن كان لا يرى بأسا بذبائح نصارى بني تغلب ، وكان يقول : انتحلوا دينا ، فذاك دينهم .

وقال آخرون : إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية ، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم ، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل ، فلم يعن بهذه الآية ، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه ، لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قبل المسلمين . وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله حدثنا بذلك عنه الربيع ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين .

ذكر من حرم ذبائح نصارى العرب .

11230 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة قال : قال علي رضوان الله عليه : لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب ، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر .

11231 - حدثنا يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي قال : لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب ، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر .

11232 - حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا عبد الله بن بكر قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا تؤكل ذبائحهم ، فإنهم لم يتعلقوا من دينهم إلا بشرب الخمر .

11233 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال : حدثنا علي بن عابس ، [ ص: 576 ] عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري قال : نهانا علي عن ذبائح نصارى العرب .

11234 - حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة القصاب قال : سمعت محمد بن علي يحدث ، عن علي : أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب .

11235 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب ، وذبائح نصارى أرمينية .

قال أبو جعفر : وهذه الأخبار عن علي رضوان الله عليه ، إنما تدل على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ، من أجل أنهم ليسوا على النصرانية ، لتركهم تحليل ما تحلل النصارى ، وتحريم ما تحرم ، غير الخمر . ومن كان منتحلا ملة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها . فلذلك نهى علي عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب ، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل .

فإذ كان ذلك كذلك ، وكان إجماعا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصراني ويهودي دان دين النصراني أو اليهودي فأحل ما أحلوا ، وحرم ما حرموا ، [ ص: 577 ] من بني إسرائيل كان أو من غيرهم فبين خطأ ما قال الشافعي في ذلك ، وتأويله الذي تأوله في قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، أنه ذبائح الذين أوتوا الكتاب التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وصواب ما خالف تأويله ذلك ، وقول من قال : إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحته ، من أي أجناس بني آدم كان .

وأما"الطعام" الذي قال الله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب " ، فإنه الذبائح .

وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

11236 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : الذبائح .

11237 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : ذبائحهم .

11238 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

11239 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

11240 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

[ ص: 578 ]

11241 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

11242 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : ذبيحة أهل الكتاب .

11243 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : ذبائحهم .

11244 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .

11245 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

11246 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

11247 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .

11248 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : ذبائحهم .

11249 - حدثني المثنى قال : حدثنا المعلى بن أسد قال : حدثنا خالد ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله .

[ ص: 579 ]

11250 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، أي : ذبائحهم .

11251 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، أما طعامهم ، فهو الذبائح .

11252 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول ، حدثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " ، قال : أحل الله لنا طعامهم ونساءهم .

11253 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أما قوله : "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم" ، فإنه أحل لنا طعامهم ونساءهم .

11254 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألته يعني ابن زيد عما ذبح للكنائس وسمي عليها ، فقال : أحل الله لنا طعام أهل الكتاب ، ولم يستثن منه شيئا .

11255 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدثني معاوية ، عن أبي الزاهرية حدير بن كريب ، عن أبي الأسود ، عن عمير بن الأسود : أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها"جرجس" ، أهدوه لها ، أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء : اللهم عفوا! إنما هم أهل كتاب ، طعامهم حل لنا ، وطعامنا حل لهم! وأمره بأكله .

[ ص: 580 ]

وأما قوله : "وطعامكم حل لهم" ، فإنه يعني : ذبائحكم ، أيها المؤمنون ، حل لأهل الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية