الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : "يا أيها الذين آمنوا" يا أيها الذين أقروا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم "اذكروا نعمة الله عليكم" ، اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم ، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به ، والعقود التي عاقدتم نبيكم صلى الله عليه وسلم عليها . ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه ، فقال : هي كفه عنكم أيدي القوم الذين هموا بالبطش بكم ، فصرفهم عنكم ، [ ص: 101 ] وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم .

ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكر الله جل ثناؤه أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بها ، وأمرهم بالشكر له عليها .

فقال بعضهم : هو استنقاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما كانت اليهود من بني النضير هموا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري .

ذكر من قال ذلك :

11557 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم على دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري . فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن ، فمن رجل يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب : أنا . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر ، وانصرف عنهم ، فأنزل الله عز ذكره فيهم وفيما أراد هو وقومه : " ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " . . . الآية . [ ص: 102 ]

11558 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" ، قال : اليهود ، دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم ، وأصحابه من وراء جداره ، فاستعانهم في مغرم دية غرمها ، ثم قام من عندهم ، فائتمروا بينهم بقتله ، فخرج يمشي القهقرى ينظر إليهم ، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتاموا إليه .

11559 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم" : يهود ، حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم ، وأصحابه من وراء جدار لهم ، فاستعانهم في مغرم ، في الدية التي غرمها ، ثم قام من عندهم ، فائتمروا بينهم بقتله ، فخرج يمشي معترضا ينظر إليهم خيفتهم ، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتاموا إليه . قال الله جل وعز : " فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .

11560 - حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا يونس بن بكير قال : حدثني أبو معشر ، عن يزيد بن أبي زياد قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير يستعينهم في عقل أصابه ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، فقال : أعينوني في عقل أصابني . فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة! اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 103 ] وأصحابه ينتظرونه ، وجاء حيي بن أخطب وهو رأس القوم ، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال : فقال حيي لأصحابه : لا ترونه أقرب منه الآن ، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ، ولا ترون شرا أبدا ! فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه ، فأمسك الله عنها أيديهم ، حتى جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثم ، فأنزل الله جل وعز : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون" ، فأخبر الله عز ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به .

11561 - حدثني القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" الآية ، قال : يهود ، دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا ، فاستعانهم في مغرم غرمه ، فائتمروا بينهم بقتله ، فقام من عندهم فخرج معترضا ينظر إليهم خيفتهم ، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتاموا إليه .

11562 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد بني النجار وهو أحد النقباء ليلة العقبة فبعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار ، فخرجوا ، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة ، وهي من مياه بني عامر ، فاقتتلوا ، فقتل المنذر وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم ، فلم يرعهم إلا والطير تحوم في السماء ، يسقط من بين خراطيمها علق الدم . فقال أحد النفر : قتل أصحابنا والرحمن! ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين ، فلما خالطته الضربة ، رفع رأسه إلى السماء ففتح [ ص: 104 ] عينيه ثم قال : الله أكبر ، الجنة ورب العالمين!! فكان يدعى"أعنق ليموت" ، ورجع صاحباه ، فلقيا رجلين من بني سليم ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة ، فانتسبا لهما إلى بني عامر ، فقتلاهما . وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية ، فخرج ومعه أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، حتى دخلوا إلى كعب بن الأشرف ويهود النضير ، فاستعانهم في عقلهما . قال : فاجتمعت اليهود لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، واعتلوا بصنيعة الطعام ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بالذي أجمعت عليه يهود من الغدر ، فخرج ثم دعا عليا ، فقال : لا تبرح مقامك ، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل : "وجه إلى المدينة فأدركوه" . قال : فجعلوا يمرون على علي ، فيأمرهم بالذي أمره حتى أتى عليه آخرهم ، ثم تبعهم ، فذلك قوله : ( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ) [ سورة المائدة : 13 ] .

11563 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك في قوله : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم" قال : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، حين أرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية ، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم بالشكر له عليها : أن اليهود كانت همت بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في طعام دعوه إليه ، فأعلم الله عز وجل نبيه صلى [ ص: 105 ] الله عليه وسلم ما هموا به ، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه .

ذكر من قال ذلك :

11564 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم " إلى قوله : "فكف أيديهم عنكم" وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام ، فأوحى الله إليه بشأنهم ، فلم يأت الطعام ، وأمر أصحابه فلم يأتوه .

وقال آخرون : عنى الله جل ثناؤه بذلك : النعمة التي أنعمها على المؤمنين باطلاع نبيه صلى الله عليه وسلم على ما هم به عدوه وعدوهم من المشركين يوم بطن نخل من اغترارهم إياهم ، والإيقاع بهم ، إذا هم اشتغلوا عنهم بصلاتهم فسجدوا فيها ، وتعريفه نبيه صلى الله عليه وسلم الحذار من عدوه في صلاته بتعليمه إياه صلاة الخوف .

ذكر من قال ذلك :

11565 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" . . . الآية ، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة ، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا [ ص: 106 ] به ، فأطلعه الله على ذلك . ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله ، فأتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وسيفه موضوع ، فقال : آخذه ، يا نبي الله؟ قال : خذه! قال : أستله؟ قال : نعم! فسله ، فقال : من يمنعك مني؟ قال : "الله يمنعني منك! . فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له القول ، فشام السيف وأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالرحيل ، فأنزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك .

11566 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، ذكره عن أبي سلمة ، عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسله ، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الله" ، فشام الأعرابي السيف ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي ، وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه قال معمر : وكان قتادة يذكر نحو هذا ، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسلوا هذا الأعرابي . وتأول : "اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" ، الآية . [ ص: 107 ]

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك ، قول من قال : عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها ، وخيانتها ربها وأنبياءها . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم ، والصفح عن عظيم جهلهم ، فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عقيب قوله : "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" وغيرهم كان يبسط الأيدي إليهم . لأنه لو كان الذين هموا ببسط الأيدي إليهم غيرهم لكان حريا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم ، لا عمن لم يجر لهم بذلك ذكر ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع ، [ ص: 108 ] لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر ، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك دون ما خالفه .

التالي السابق


الخدمات العلمية