الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ( 19 ) ولا الظلمات ولا النور ( 20 ) ولا الظل ولا الحرور ( 21 ) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ( 22 ) إن أنت إلا نذير ( 23 ) ) [ ص: 457 ]

يقول - تعالى ذكره - : ( وما يستوي الأعمى ) عن دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( والبصير ) الذي قد أبصر فيه رشده ; فاتبع محمدا وصدقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به ( ولا الظلمات ) يقول : وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ( ولا الظل ) قيل : ولا الجنة ( ولا الحرور ) قيل : النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار ، والحرور بمنزلة السموم ، وهي الرياح الحارة . وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى ، عن رؤبة بن العجاج ، أنه كان يقول : الحرور بالليل والسموم بالنهار . وأما أبو عبيدة فإنه قال : الحرور في هذا الموضع والنهار مع الشمس ، وأما الفراء فإنه كان يقول : الحرور يكون بالليل والنهار ، والسموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار .

والقول في ذلك عندي : أن الحرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن يكون كما قال أبو عبيدة : أشبه مع الشمس لأن الظل إنما يكون في يوم شمس ، فذلك يدل على أنه أريد بالحرور : الذي يوجد في حال وجود الظل .

وقوله ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) يقول : وما يستوي الأحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، والأموات القلوب لغلبة الكفر عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال ، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني [ ص: 458 ] أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وما يستوي الأعمى والبصير ) الآية قال : هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية ; يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات ، فهو مثل أهل المعصية ، ولا يستوي البصير ولا النور ولا الظل والأحياء ، فهو مثل أهل الطاعة .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وما يستوي الأعمى ) الآية ، خلقا فضل بعضه على بعض ; فأما المؤمن فعبد حي الأثر ، حي البصر ، حي النية ، حي العمل ، وأما الكافر فعبد ميت ; ميت البصر ، ميت القلب ، ميت العمل .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) قال : هذا مثل ضربه الله ; فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظل ولا الحرور ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ولا هذا الأعمى ، وقرأ ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) قال : الهدى الذي هداه الله به ونور له ، هذا مثل ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى ، فجعل المؤمن حيا وجعل الكافر ميتا ميت القلب ( أومن كان ميتا فأحييناه ) قال : هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب وهو في الظلمات ، أهذا وهذا سواء؟ .

واختلف أهل العربية في وجه دخول " لا " مع حرف العطف في قوله ( ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ) فقال بعض نحويي البصرة : قال : ولا الظل ولا الحرور ، فيشبه أن تكون " لا " زائدة ، لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلا أن تكون " لا " زائدة ، وكان غيره يقول : إذا لم تدخل " لا " مع الواو ، فإنما لم تدخل اكتفاء بدخولها في أول الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كل واحد منهما لا يساوي صاحبه ، [ ص: 459 ] فكان معنى الكلام إذا أعيدت " لا " مع الواو عند صاحب هذا القول لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ، فكل واحد منهما لا يساوي صاحبه .

وقوله ( إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ) يقول - تعالى ذكره - : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله وبيان حججه من كان ميت القلب من أحياء عباده ، عن معرفة الله ، وفهم كتابه وتنزيله ، وواضح حججه .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ) كذلك الكافر لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع .

وقوله ( إن أنت إلا نذير ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ما أنت إلا نذير تنذر هؤلاء المشركين بالله الذين طبع الله على قلوبهم ، ولم يرسلك ربك إليهم إلا لتبلغهم رسالته ، ولم يكلفك من الأمر ما لا سبيل لك إليه ، فأما اهتداؤهم وقبولهم منك ما جئتهم به فإن ذلك بيد الله لا بيدك ولا بيد غيرك من الناس ; فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك .

التالي السابق


الخدمات العلمية