الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها .

و" الخمر " كل شراب خمر العقل فستره وغطى عليه . وهو من قول القائل : " خمرت الإناء " إذا غطيته ، و" خمر الرجل " ، إذا دخل في الخمر . ويقال : " هو في خمار الناس وغمارهم " ، يراد به دخل في عرض الناس . ويقال للضبع : " خامري أم عامر " ، أي استتري . وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو " خمر " . [ ص: 321 ] ومن ذلك أيضا " خمار المرأة " ، وذلك لأنها تستر [ به ] رأسها فتغطيه . ومنه يقال : " هو يمشي لك الخمر " ، أي مستخفيا ، كما قال العجاج :


في لامع العقبان لا يأتي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر



ويعني بقوله : " لا يأتي الخمر " لا يأتي مستخفيا ولا مسارقة ، ولكن ظاهرا برايات وجيوش . و" العقبان " جمع " عقاب " ، وهي الرايات .

وأما " الميسر " فإنها " المفعل " من قول القائل : " يسر لي هذا الأمر " ، إذا وجب لي " فهو ييسر لي يسرا وميسرا " و" الياسر " الواجب ، بقداح وجب ذلك ، أو فتاحة أو غير ذلك . ثم قيل للمقامر ، " ياسر ويسر " ، كما قال الشاعر :


فبت كأنني يسر غبين     يقلب ، بعد ما اختلع ، القداحا



وكما قال النابغة : [ ص: 322 ]


أو ياسر ذهب القداح بوفره     أسف تآكله الصديق مخلع



يعني " بالياسر " : المقامر . وقيل للقمار " ميسر " .

وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك .

4106 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " يسألونك عن الخمر والميسر " قال : القمار ، وإنما سمي " الميسر " لقولهم : " أيسروا واجزروا " ، كقولك : ضع كذا وكذا .

4107 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا سفيان عن ليث عن مجاهد قال : كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز .

4108 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص قال : قال عبد الله : إياكم وهذه الكعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرا ، فإنهن من الميسر .

4109 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص مثله .

4110 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن نافع قال : حدثنا شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن أبي الأحوص عن عبد الله أنه قال : إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زجرا ، فإنها من الميسر . [ ص: 323 ]

4111 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال : حدثنا علي بن مسهر عن عاصم عن محمد بن سيرين قال : القمار ميسر .

4112 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عامر قال : حدثنا سفيان عن عاصم الأحول عن محمد بن سيرين قال : كل شيء له خطر أو : في خطر ، أبو عامر شك ، فهو من الميسر .

4113 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال : حدثنا علي بن مسهر عن عاصم عن محمد بن سيرين قال : كل قمار ميسر ، حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه .

4114 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن عاصم عن ابن سيرين قال : كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام ، فهو من الميسر .

4115 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا خالد بن الحارث قال : حدثنا الأشعث عن الحسن أنه قال : الميسر القمار .

4116 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا المعتمر عن ليث عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز .

4117 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام عن عمرو عن عطاء عن سعيد قال : الميسر القمار .

4118 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص عن عبيد الله قال : إياكم وهاتين الكعبتين يزجر بهما زجرا ، فإنهما من الميسر .

4119 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا ابن علية عن ابن أبي [ ص: 324 ] عروبة عن قتادة قال : أما قوله : " الميسر " ، فهو القمار كله .

4120 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبيد الله بن عمر : أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد : النرد " ميسر " ، أرأيت الشطرنج ؟ ميسر هو ؟ فقال القاسم : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر .

4121 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : الميسر القمار . كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله .

4122 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي قال : الميسر القمار .

4123 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرازق قال : أخبرنا معمر عن قتادة قال : الميسر القمار .

4124 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرازق قال : أخبرنا معمر عن الليث عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا : الميسر القمار كله ، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان .

4125 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث ، عن الضحاك قوله : " الميسر " ، قال : القمار .

4126 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قال : الميسر القمار .

4127 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو بدر شجاع [ ص: 325 ] بن الوليد قال : حدثنا موسى بن عقبة عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : القمار من الميسر .

4128 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : الميسر ، قداح العرب وكعاب فارس قال : وقال ابن جريج : وزعم عطاء بن ميسرة : أن الميسر القمار كله .

4129 - حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عبد العزيز قال قال مكحول : الميسر القمار .

4130 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال : حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : الميسر القمار .

وأما قوله : " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهم : " فيهما " ، يعني في الخمر والميسر " إثم كبير " ، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما : -

4131 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما قوله : " فيهما إثم كبير " ، فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس . وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم .

4132 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " قل فيهما إثم كبير " ، قال : هذا أول ما عيبت به الخمر .

4133 - حدثني علي بن داود قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " قل فيهما إثم كبير " ، يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها . [ ص: 326 ]

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل " الإثم الكبير " الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر : في " الخمر " ما قاله السدي : زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه ، وذلك أعظم الآثام . وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله . وأما في " الميسر " ، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة ، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه ، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) [ سورة المائدة : 91 ]

وأما قوله : " ومنافع للناس " ، فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها ، وما يصلون إليه بشربها من اللذة ، كما قال الأعشى في صفتها .


لنا من ضحاها خبث نفس وكأبة     وذكرى هموم ما تغب أذاتها
وعند العشاء طيب نفس ولذة     ومال كثير ، عزة نشواتها



وكما قال حسان : [ ص: 327 ]


فنشربها فتتركنا ملوكا     وأسدا ، ما ينهنهنا اللقاء



وأما منافع الميسر ، فما يصيبون فيه من أنصباء الجزور . وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور ، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره ، ثم اقتسموا أعشارا على عدد القداح ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة :


وجزور أيسار دعوت إلى الندى     ونياط مقفرة أخاف ضلالها

[ ص: 328 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

4134 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : المنافع ههنا ما يصيبون من الجزور .

4135 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما منافعهما ، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه ، ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار .

4136 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " ، قال : منافعهما قبل أن يحرما .

4137 - حدثنا علي بن داود قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس : " ومنافع للناس " ، قال : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها .

واختلف القرأة في قراءة ذلك :

فقرأه عظم أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : " قل فيهما إثم كبير " بالباء ، بمعنى قل : في شرب هذه ، والقمار هذا كبير من الآثام .

وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة : " قل فيهما إثم كثير " ، بمعنى الكثرة من الآثام . وكأنهم رأوا أن " الإثم " بمعنى " الآثام " ، وإن كان في اللفظ واحدا ، فوصفوه بمعناه من الكثرة . [ ص: 329 ]

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه " بالباء " : " قل فيهما إثم كبير " ، لإجماع جميعهم على قوله : " وإثمهما أكبر من نفعهما " ، وقراءته بالباء . وفي ذلك دلالة بينة على أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك ، هو العظم والكبر ، لا الكثرة في العدد . ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة ، لقيل : وإثمهما أكثر من نفعهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية