الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6792 حدثنا محمد بن يوسف أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قيل لعمر ألا تستخلف قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه فقال راغب راهب وددت أني نجوت منها كفافا لا لي ولا علي لا أتحملها حيا ولا ميتا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني : قوله ( سفيان ) هو الثوري " ومحمد بن يوسف " الراوي عنه هو الفريابي .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( قيل لعمر ألا تستخلف ) في رواية مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر " حضرت أبي حين أصيب قالوا استخلف " وأورد من وجه آخر أن قائل ذلك هو ابن عمر راوي الحديث ، أخرجه من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أن حفصة قالت له : أعلمت أن أباك غير مستخلف ؟ قال : فحلفت أن أكلمه في ذلك " فذكر القصة وأنه قال له : " لو كان لك راعي غنم ثم جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد " وفيه قول عمر في جواب ذلك : إن الله يحفظ دينه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : إن أستخلف إلخ ) في رواية سالم " إن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف " قال عبد الله " فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا ، وأنه غير مستخلف " وأخرج ابن سعد من طريق عبد الله بن عبيد الله وأظنه ابن عمير قال : قال أناس لعمر ألا تعهد ؟ قال : أي ذلك آخذ فقد تبين لي أن الفعل والترك وهو مشكل ويزيله أن دليل الترك من فعله صلى الله عليه وسلم واضح ، ودليل الفعل يؤخذ من عزمه الذي حكته عائشة في الحديث الذي قبله . وهو لا يعزم إلا على جائز ، فكأن عمر قال : إن أستخلف فقد عزم صلى الله عليه وسلم على الاستخلاف فدل على جوازه وإن أترك فقد ترك فدل على جوازه ، وفهم أبو بكر من عزمه الجواز فاستعمله ، واتفق الناس على قبوله ، قاله ابن المنير .

                                                                                                                                                                                                        قلت : والذي يظهر أن عمر رجح عنده الترك ، لأنه الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم بخلاف العزم وهو يشبه عزمه صلى الله عليه وسلم على التمتع في الحج ، وفعله الإفراد فرجح الإفراد .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 220 ] قوله ( فأثنوا عليه قال راغب وراهب ) قال ابن بطال : يحتمل أمرين أحدهما أن الذين أثنوا عليه إما راغب في حسن رأيي فيه وتقربي له ، وإما راهب من إظهار ما يضمره من كراهته ، أو المعنى راغب فيما عندي وراهب مني ، أو المراد الناس راغب في الخلافة وراهب منها ، فإن وليت الراغب فيها خشيت أن لا يعان عليها ، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا يقوم بها . وذكر القاضي عياض توجيها آخر : إنهما وصفان لعمر أي راغب فيما عند الله ، راهب من عقابه ، فلا أعول على ثنائكم وذلك يشغلني عن العناية بالاستخلاف عليكم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : وددت أني نجوت منها ) أي من الخلافة ( كفافا ) بفتح الكاف وتخفيف الفاء أي مكفوفا عني شرها وخيرها . وقد فسره في الحديث بقوله " لا لي ولا علي " وقد تقدم نحو هذا من قول عمر في مناقبه في مراجعته لأبي موسى فيما عملوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية أبي أسامة " لوددت لو أن حظي منها الكفاف " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لا أتحملها حيا وميتا ) في رواية أبي أسامة " أتحمل أمركم حيا وميتا " وهو استفهام إنكار حذفت منه أداته ، وقد بين عذره في ذلك لكنه لما أثر فيه قول عبد الله بن عمر حيث مثل له أمر الناس بالغنم مع الراعي خص الأمر بالستة وأمرهم أن يختاروا منهم واحدا ، وإنما خص الستة لأنه اجتمع في كل واحد منهم أمران كونه معدودا في أهل بدر ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض ، وقد صرح بالثاني الحديث الماضي في مناقب عثمان ، وأما الأول فأخرجه ابن سعد من طريق عبد الرحمن بن أبزى عن عمر قال هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد . ثم في كذا ، وليس فيها لطليق ولا لمسلمة الفتح شيء . وهذا مصير منه إلى اعتبار تقديم الأفضل في الخلافة ، قال ابن بطال ما حاصله " أن عمر سلك في هذا الأمر مسلكا متوسطا خشية الفتنة " فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين ، فجعل الأمر معقودا موقوفا على الستة لئلا يترك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فأخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم طرفا وهو ترك التعيين ، ومن فعل أبي بكر طرفا وهو العقد لأحد الستة وإن لم ينص عليه انتهى . ملخصا .

                                                                                                                                                                                                        قال : وفي هذه القصة دليل على جواز عقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده ، وأن أمره في ذلك جائز على عامة المسلمين لإطباق الصحابة ومن معهم على العمل بما عهده أبو بكر لعمر ، وكذا لم يختلفوا في قبول عهد عمر إلى الستة ، قال : وهو شبيه بإيصاء الرجل على ولده لكون نظره فيما يصلح أتم من غيره فكذلك الإمام ، انتهى . وفيه رد على من جزم كالطبري ، وقبله بكر بن أخت عبد الواحد وبعده ابن حزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر قال : ووجهه جزم عمر بأنه لم يستخلف ، لكن تمسك من خالفه بإطباق الناس على تسمية أبي بكر خليفة رسول الله ، واحتج الطبري أيضا بما أخرجه بسند صحيح من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم " رأيت عمر يجلس الناس ويقول اسمعوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

                                                                                                                                                                                                        قلت : ونظيره ما في الحديث الخامس من قول أبي بكر " حتى يرى الله خليفة نبيه " ورد بأن الصيغة يحتمل أن تكون من مفعول ومن فاعل فلا حجة فيها ، ويترجح كونها من فاعل جزم عمر بأنه لم يستخلف وموافقة ابن عمر له على ذلك ، فعلى هذا فمعنى " خليفة رسول الله " الذي خلفه فقام بالأمر بعده فسمي خليفة رسول الله لذلك وأن عمر أطلق على أبي بكر خليفة رسول الله بمعنى أنه أشار إلى ذلك بما تضمنه حديث الباب ، وغيره من الأدلة وإن لم يكن في شيء منها تصريح ، لكن مجموعها يؤخذ منه ذلك ، فليس في ذلك [ ص: 221 ] خلاف لما روى ابن عمر عن عمر ، وكذا فيه رد على من زعم من الراوندية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس وعلى قول الروافض كلها أنه نص على علي . ووجه الرد عليهم إطباق الصحابة على متابعة أبي بكر ثم على طاعته في مبايعة عمر ، ثم على العمل بعهد عمر في الشورى ، ولم يدع العباس ولا علي أنه صلى الله عليه وسلم عهد له بالخلافة ، وقال النووي وغيره : أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف ، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان حيث لا يكون هناك استخلاف غيره ، وعلى جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين عدد محصور أو غيره ، وأجمعوا على أنه يجب نصب خليفة ، وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل ، وخالف بعضهم كالأصم وبعض الخوارج فقالوا : يجب نصب الخليفة . وخالف بعض المعتزلة فقالوا : يجب بالعقل لا بالشرع ، وهما باطلان . أما الأصم فاحتج ببقاء الصحابة بلا خليفة مدة التشاور أيام السقيفة وأيام الشورى بعد موت عمر ، ولا حجة له في ذلك لأنهم لم يطبقوا على الترك بل كانوا ساعين في نصب الخليفة ، آخذين في النظر فيمن يستحق عقدها له ، ويكفي في الرد على الأصم أنه محجوج بإجماع من قبله ، وأما القول الآخر ففساده ظاهر لأن العقل لا مدخل له في الإيجاب والتحريم ولا التحسين والتقبيح وإنما يقع ذلك بحسب العادة انتهى . وفي قول المذكور مدة التشاور أيام السقيفة خدش يظهر من الحديث الذي بعده ، وأنهم بايعوا أبا بكر في أول يوم لتصريحه فيه بأن عمر خطب الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر فقال " فقوموا فبايعوه " وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة فلم يكن بين الوفاة النبوية وعقد الخلافة لأبي بكر إلا دون اليوم والليلة ، وقد تقدم إيضاح ذلك في مناقب أبي بكر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الثالث :




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية