الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1319 حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي سلمة ) هكذا رواه ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، وتابعه يونس كما تقدم قبل أبواب من طريق عبد الله بن المبارك عنه ، وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب ، عن يونس ، وخالفهما الزبيدي ، ومعمر ، فروياه عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب بدل أبي سلمة ، وأخرجه الذهلي في " الزهريات " من طريق الأوزاعي ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، وقد تقدم أيضا من طريق شعيب ، عن الزهري ، عن أبي هريرة من غير ذكر واسطة . وصنيع البخاري يقتضي ترجيح طريق أبي سلمة ، وصنيع مسلم يقتضي تصحيح القولين عن الزهري ، وبذلك جزم الذهلي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كل مولود ) أي من بني آدم ، وصرح به جعفر بن ربيعة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة بلفظ : كل بني آدم يولد على الفطرة . وكذا رواه خالد الواسطي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، ذكرها ابن عبد البر ، واستشكل هذا التركيب بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهويد وغيره مما ذكر ، والفرض أن بعضهم يستمر مسلما ولا يقع له شيء ، والجواب أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود ومقتضى طبعه ، بل إنما حصل بسبب خارجي ، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق . وهذا يقوي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يولد على الفطرة ) ظاهره تعميم الوصف المذكور في جميع المولودين ، وأصرح منه رواية يونس المتقدمة بلفظ : ما من مولود إلا يولد على الفطرة . ، ولمسلم من طريق أبي صالح ، عن أبي هريرة بلفظ : ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه . ، وفي رواية له من هذا الوجه : ما من مولود إلا وهو على الملة . وحكى ابن عبد البر عن قوم أنه لا يقتضي العموم ، وإنما المراد أن كل من ولد على الفطرة ، وكان له أبوان على غير الإسلام نقلاه إلى دينهما ، فتقدير الخبر على هذا : كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوديان مثلا فإنهما يهودانه ، ثم يصير عند بلوغه إلى ما يحكم به عليه . ويكفي في الرد عليهم رواية أبي صالح المتقدمة . وأصرح منها رواية جعفر بن ربيعة بلفظ : كل بني آدم يولد على الفطرة . وقد اختلف السلف في المراد بالفطرة في هذا الحديث على أقوال كثيرة ، وحكى أبو عبيد أنه سأل محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة عن ذلك فقال : كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، وقبل الأمر بالجهاد . قال أبو عبيد : كأنه عنى أنه لو كان يولد على الإسلام ، فمات قبل أن يهوده أبواه مثلا لم يرثاه . والواقع في الحكم أنهما يرثانه فدل على تغير الحكم . وقد تعقبه ابن عبد البر وغيره . وسبب الاشتباه أنه حمله على أحكام الدنيا ، فلذلك ادعى فيه النسخ ، والحق أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بما وقع في نفس الأمر ، ولم يرد به إثبات أحكام الدنيا . وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام ، قال ابن عبد البر : وهو المعروف عند عامة السلف . وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها الإسلام ، [ ص: 293 ] واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب : اقرءوا إن شئتم : فطرة الله التي فطر الناس عليها . وبحديث عياض بن حمار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم . الحديث . وقد رواه غيره فزاد فيه " حنفاء مسلمين " ورجحه بعض المتأخرين بقوله تعالى : فطرة الله لأنها إضافة مدح ، وقد أمر نبيه بلزومها ، فعلم أنها الإسلام . وقال ابن جرير : قوله : فأقم وجهك للدين ؛ أي سدد لطاعته حنيفا ، أي مستقيما ، فطرة الله ، أي صبغة الله ، وهو منصوب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول ، أو منصوب بفعل مقدر ، أي الزم . وقد سبق قبل أبواب قول الزهري في الصلاة على المولود : من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام ، وسيأتي في تفسير سورة الروم جزم المصنف بأن الفطرة الإسلام ، وقد قال أحمد : من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه . واستدل بحديث الباب ، فدل على أنه فسر الفطرة بالإسلام . وتعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن لا يصح استرقاقه ، ولا يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه . والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر ، لا لبيان الأحكام في الدنيا . وحكى محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام . قال ابن القيم : وقد جاء عن أحمد أجوبة كثيرة يحتج فيها بهذا الحديث على أن الطفل إنما يحكم بكفره بأبويه ، فإذا لم يكن بين أبوين كافرين فهو مسلم . وروى أبو داود ، عن حماد بن سلمة أنه قال : المراد أن ذلك حيث أخذ الله عليهم العهد حيث قال : ألست بربكم ، قالوا : بلى ونقله ابن عبد البر ، عن الأوزاعي وعن سحنون ، ونقله أبو يعلى بن الفراء عن إحدى الروايتين ، عن أحمد ، وهو ما حكاه الميموني عنه ، وذكره ابن بطة ، وقد سبق في " باب إسلام الصبي " في آخر حديث الباب من طريق يونس ، ثم يقول : فطرة الله التي فطر الناس عليها - إلى قوله - : القيم . وظاهره أنه من الحديث المرفوع ، وليس كذلك بل هو من كلام أبي هريرة أدرج في الخبر ، بينه مسلم من طريق الزبيدي ، عن الزهري ولفظه : " ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم " . قال الطيبي : ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقوي ما أوله حماد بن سلمة من أوجه : أحدها أن التعريف في قوله : " على الفطرة " إشارة إلى معهود وهو قوله تعالى : فطرة الله ، ومعنى المأمور في قوله : فأقم وجهك ؛ أي اثبت على العهد القديم . ثانيها ورود الرواية بلفظ " الملة " بدل الفطرة ، و " الدين " في قوله : للدين حنيفا هو عين الملة ، قال تعالى : دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ويؤيده حديث عياض المتقدم . ثالثها التشبيه بالمحسوس المعاين ليفيد أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس ، قال . والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة ، والتهيؤ لقبول الدين ، فلو ترك المرء عليها لاستمر على لزومها ، ولم يفارقها إلى غيرها ، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس ، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد . انتهى . وإلى هذا مال القرطبي في " المفهم " فقال : المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق ، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فما دامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ، ودين الإسلام هو الدين الحق ، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث ، حيث قال : كما تنتج البهيمة . يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة ، فلو ترك كذلك كان بريئا من العيب ، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلا ، فخرج عن الأصل ، وهو تشبيه واقع ووجهه واضح ، والله أعلم . وقال ابن القيم : ليس المراد بقوله : يولد على الفطرة . أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين ، لأن الله يقول : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا . ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته ، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة ، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك ، لأنه [ ص: 294 ] لا يتغير بتهويد الأبوين مثلا ، بحيث يخرجان الفطرة عن القبول ، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية ، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره ، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف ، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن ، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا . والله أعلم . وفي المسألة أقوال أخر ذكرها ابن عبد البر وغيره : منها قول ابن المبارك : إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة ، فمن علم الله أنه يصير مسلما ولد على الإسلام ، ومن علم الله أنه يصير كافرا ولد على الكفر ، فكأنه أول الفطرة بالعلم . وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله : " فأبواه يهودانه إلخ " معنى ، لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها ، فينافي في التمثيل بحال البهيمة . ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة والإنكار ، فلما أخذ الميثاق من الذرية قالوا جميعا : ( بلى ) أما أهل السعادة فقالوها طوعا ، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرها . وقال محمد بن نصر : سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى ويرجحه ، وتعقب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح ، فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السدي ولم يسنده ، وكأنه أخذه من الإسرائيليات ، حكاه ابن القيم عن شيخه . ومنها أن المراد بالفطرة الخلقة ، أي يولد سالما لا يعرف كفرا ولا إيمانا ، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف ، ورجحه ابن عبد البر ، وقال : إنه يطابق التمثيل بالبهيمة ، ولا يخالف حديث عياض لأن المراد بقوله : ( حنيفا ) ؛ أي على استقامة ، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملة الإسلام ، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى . ومنها قول بعضهم : إن اللام في الفطرة للعهد أي فطرة أبويه ، وهو متعقب بما ذكر في الذي قبله . ويؤيد المذهب الصحيح أن قوله : فأبواه يهودانه . . . إلخ ، ليس فيه لوجود الفطرة شرط ، بل ذكر ما يمنع موجبها ، كحصول اليهودية مثلا متوقف على أشياء خارجة عن الفطرة ، بخلاف الإسلام . وقال ابن القيم : سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله بل مما ابتدأ الناس إحداثه ، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام ، ولا حاجة لذلك ، لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام ، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية ، لأن قوله : فأبواه يهودانه . . . إلخ . محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى ، ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث : الله أعلم بما كانوا عاملين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأبواه ) أي المولود ، قال الطيبي : الفاء إما للتعقيب أو السببية أو جزاء شرط مقدر ، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه ، إما بتعليمهما إياه أو بترغيبهما فيه ، وكونه تبعا لهما في الدين يقتضي أن يكون حكمه حكمهما . وخص الأبوان بالذكر للغالب ، فلا حجة فيه لمن حكم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين ، كما هو قول أحمد ، فقد استمر عمل الصحابة ومن بعدهم على عدم التعرض لأطفال أهل الذمة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كمثل البهيمة تنتج البهيمة ) أي تلدها ، فالبهيمة الثانية بالنصب على المفعولية ، وقد تقدم بلفظ : كما تنتج البهيمة بهيمة . ، قال الطيبي : قوله : " كما " حال من الضمير المنصوب في " يهودانه " ؛ أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة تشبيها بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة ، أو هو صفة مصدر محذوف ، أي يغيرانه تغييرا مثل تغييرهم البهيمة السليمة ، قال : وقد تنازعت الأفعال الثلاثة في " كما " على التقديرين .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 295 ] قوله : ( تنتج ) بضم أوله وسكون النون وفتح المثناة بعدها جيم ، قال أهل اللغة : نتجت الناقة على صيغة ما لم يسم فاعله ، تنتج بفتح المثناة ، وأنتج الرجل ناقته ينتجها إنتاجا ، زاد في الرواية المتقدمة : بهيمة جمعاء . أي لم يذهب من بدنها شيء ، سميت بذلك لاجتماع أعضائها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هل ترى فيها جدعاء ) ؟ قال الطيبي : هو في موضع الحال أي سليمة مقولا في حقها ذلك ، وفيه نوع التأكيد ، أي إن كل من نظر إليها قال ذلك لظهور سلامتها . والجدعاء المقطوعة الأذن ، ففيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر كان بسبب صممهم عن الحق . ووقع في الرواية المتقدمة بلفظ : هل تحسون فيها من جدعاء ؟ وهو من الإحساس ، والمراد به العلم بالشيء ، يريد أنها تولد لا جدع فيها ، وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك . وسيأتي في تفسير سورة الروم أن معنى قوله : لا تبديل لخلق الله أي لدين الله ، وتوجيه ذلك .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : ذكر ابن هشام في " المغني " عن ابن هشام الخضراوي أنه جعل هذا الحديث شاهدا لورود " حتى " للاستثناء ، فذكره بلفظ : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه . وقال : ولك أن تخرجه على أن فيه حذفا أي يولد على الفطرة ويستمر على ذلك حتى يكون ، يعني فتكون للغاية على بابها . انتهى . ومال صاحب " المغني " في موضع آخر إلى أنه ضمن " يولد " معنى ينشأ مثلا ، وقد وجدت الحديث في تفسير ابن مردويه من طريق الأسود بن سريع بلفظ : ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها . الحديث . وهو يؤيد الاحتمال المذكور . واللفظ الذي ساقه الخضراوي لم أره في الصحيحين ولا غيرهما ، إلا عند مسلم كما تقدم في رواية : حتى يعرب عنه لسانه . ثم وجدت أبا نعيم في مستخرجه على مسلم أورد الحديث من طريق كثير بن عبيد ، عن محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري بلفظ : ما من مولود يولد في بني آدم إلا يولد على الفطرة ، حتى يكون أبواه يهودانه . الحديث . وكذا أخرجه ابن مردويه من هذا الوجه ، وهو عند مسلم ، عن حاجب بن الوليد ، عن محمد بن حرب بلفظ : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، أبواه يهودانه . الحديث .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية