الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع

                                                                                                                                                                                                        4086 حدثنا موسى حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك عن أبي بردة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال واليمن مخلافان ثم قال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا فانطلق كل واحد منهما إلى عمله وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلم عليه فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ يا عبد الله بن قيس أيم هذا قال هذا رجل كفر بعد إسلامه قال لا أنزل حتى يقتل قال إنما جيء به لذلك فانزل قال ما أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل ثم نزل فقال يا عبد الله كيف تقرأ القرآن قال أتفوقه تفوقا قال فكيف تقرأ أنت يا معاذ قال أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي [ ص: 658 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 658 ] قوله : ( باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع ) كأنه أشار بالتقييد بما قبل حجة الوداع إلى ما وقع في بعض أحاديث الباب أنه رجع من اليمن فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة في حجة الوداع ، لكن القبلية نسبية ، وقد قدمت في الزكاة في الكلام على حديث معاذ متى كان بعثه إلى اليمن . وروى أحمد من طريق عاصم بن حميد عن معاذ " لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن خرج يوصيه ومعاذ راكب " الحديث . ومن طريق يزيد بن قطيب عن معاذ " لما بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال : قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم ، فقاتل بمن أطاعك من عصاك " وعند أهل المغازي أنها كانت في ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا عبد الملك ) هو ابن عمير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي بردة قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى ) هذا صورته مرسل ، وقد عقبه المصنف بطريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى وهو ظاهر الاتصال ، وإن كان فيما يتعلق بالسؤال عن الأشربة ، لكن الغرض منه إثبات قصة بعث أبي موسى إلى اليمن وهو مقصود الباب ، ثم قواه بطريق طارق بن شهاب قال : " حدثني أبو موسى قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض قومي " الحديث ، وهو وإن كان إنما يتعلق بمسألة الإهلال لكنه يثبت أصل قصة البعث المقصودة هنا أيضا ، ثم قوى قصة معاذ بحديث ابن عباس في وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - له حين أرسله إلى اليمن ، وبرواية عمرو بن ميمون عن معاذ ، والمراد بها أيضا إثبات أصل قصة بعث معاذ إلى اليمن وإن كان سياق الحديث في معنى آخر ، وقد اشتمل الباب على عدة أحاديث : الحديث الأول أصل البعث إلى اليمن ، وسيأتي في استتابة المرتدين من طريق حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى سبب بعثه إلى اليمن ولفظه " قال : أقبلت ومعي رجلان من الأشعريين وكلاهما سأل - يعني أن يستعمله - فقال : لن نستعمل على عملنا من أراده ، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى إلى اليمن ، ثم أتبعه معاذ بن جبل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وبعث كل واحد منهما على مخلاف ، قال : واليمن مخلافان ) المخلاف بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء هو بلغة أهل اليمن ، وهو الكورة والإقليم والرستاق بضم الراء وسكون المهملة بعدها مثناة وآخرها [ ص: 659 ] قاف . وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن وكان من عمله الجند بفتح الجيم والنون ، وله بها مسجد مشهور إلى اليوم ، وكانت جهة أبي موسى السفلى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ) قال الطيبي : هو معنى الثاني من باب المقابلة المعنوية ؛ لأن الحقيقة أن يقال : بشرا ولا تنذرا وآنسا ولا تنفرا . فجمع بينهما ليعم البشارة والنذارة والتأنيس والتنفير . قلت : ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة وهو الأصل ، وبلفظ التنفير وهو اللازم ، وأتى بالذي بعده على العكس للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفى مطلقا بخلاف التنفير ، فاكتفى بما يلزم عنه الإنذار وهو التنفير ، فكأنه قيل إن أنذرتم فليكن بغير تنفير ، كقوله تعالى : فقولا له قولا لينا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا سار في أرضه كان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا ) كذا فيه ، وللأكثر " إذا سار في أرضه وكان قريبا أحدث - أي جدد - به العهد لزيارته " ووقع في رواية سعيد بن أبي بردة الآتية في الباب " فجعلا يتزاوران ، فزار معاذ أبا موسى " زاد في رواية حميد بن هلال " فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال انزل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإذا رجل عنده ) لم أقف على اسمه ، لكن في رواية سعيد بن أبي بردة أنه يهودي ، وسيأتي كذلك في رواية حميد بن هلال في استتابة المرتدين مع شرح هذه القصة وبيان الاختلاف في مدة استتابة المرتدين ، وقوله : ( أيم ) بفتح الميم وترك إشباعها لغة ، وأخطأ من ضمها وأصله " أي " الاستفهامية دخلت عليها " ما " وقد سمع " أيم هذا " بالتخفيف مثل " إيش هذا " فحذفت الألف من ( أيم ) والهمز من ( إيش ) .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم نزل فقال : يا عبد الله ) هو اسم أبي موسى ( كيف تقرأ القرآن ؟ قال : أتفوقه تفوقا ) بالفاء ثم القاف أي ألازم قراءته ليلا ونهارا شيئا بعد شيء وحينا بعد حين : مأخوذ من فواق الناقة وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب هكذا دائما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقد قضيت جزئي ) قال الدمياطي لعله : أربي وهو الوجه ، وهو كما قال لو جاءت به الرواية ، ولكن الذي جاء في الرواية صحيح والمراد به أنه جزأ الليل أجزاء جزءا للنوم ، وجزءا للقراءة والقيام ، فلا يلتفت إلى تخطئة الرواية الصحيحة الموجهة بمجرد التخيل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فاحتسبت نومتي كما احتسبت قومتي ) كذا لهم بصيغة الفعل الماضي ، وللكشميهني " فأحتسب " بغير المثناة في آخره بصيغة الفعل المضارع ، ومعناه أنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبه في التعب ؛ لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : كان بعث أبي موسى إلى اليمن بعد الرجوع من غزوة تبوك ؛ لأنه شهد غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي بيان ذلك في الكلام عليها فيما بعد - إن شاء الله تعالى - ، واستدل به على أن أبا موسى كان عالما فطنا حاذقا ، ولولا ذلك لم يوله النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمارة ، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به ، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي ، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى [ ص: 660 ] الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين ، قال ابن العربي وغيره : والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفه بذلك ، وغاية ما وقع منه أن اجتهاده أداه إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من أكابر الصحابة من أهل بدر ونحوهم [1] لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفين ، وآل الأمر إلى ما آل إليه .

                                                                                                                                                                                                        الحديث الثاني .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية