الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4099 حدثنا يوسف بن موسى أخبرنا أبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تريحني من ذي الخلصة فقلت بلى فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل وكنت لا أثبت على الخيل فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا قال فما وقعت عن فرس بعد قال وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة قال فأتاها فحرقها بالنار وكسرها قال ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام فقيل له إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ها هنا فإن قدر عليك ضرب عنقك قال فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال لتكسرنها ولتشهدن أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك قال فكسرها وشهد ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب قال فبرك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولما قدم جرير اليمن إلخ ) يشعر باتحاد قصته في غزوة ذي الخلصة بقصة ذهابه إلى اليمن ، وكأنه لما فرغ من أمر ذي الخلصة وأرسل رسوله مبشرا استمر ذاهبا إلى اليمن للسبب الذي سيذكر بعد باب ، وقوله : " يستقسم " أي يستخرج غيب ما يريد فعله من خير أو شر ، وقد حرم الله ذلك بقوله تعالى : وأن تستقسموا بالأزلام وحكى أبو الفرج الأصبهاني أنهم كانوا يستقسمون عند ذي الخلصة ، وأن امرأ القيس لما خرج يطلب بثأر أبيه استقسم عنده فخرج له ما يكره ، فسب الصنم ورماه بالحجارة وأنشد :


                                                                                                                                                                                                        لو كنت يا ذا الخلص الموتورا لم تنه عن قتل العداة زورا



                                                                                                                                                                                                        [ ص: 673 ] قال : فلم يستقسم عنده أحد بعد حتى جاء الإسلام . قلت : وحديث الباب يدل على أنهم استمروا يستقسمون عنده حتى نهاهم الإسلام ، وكأن الذي استقسم عنده بعد ذلك لم يبلغه التحريم أو لم يكن أسلم حتى زجره جرير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة ) بفتح الهمزة وسكون الراء بعدها مهملة وبعد الألف هاء تأنيث واسم أبي أرطاة هذا حصين بن ربيعة ، وقع مسمى في صحيح مسلم ، ولبعض رواته : " حسين " بسين مهملة بدل الصاد وهو تصحيف ، ومنهم من سماه " حصن " بكسر أوله وسكون ثانيه وقلبه بعض الرواة فقال : " ربيعة بن حصين " ومنهم من سماه " أرطاة " والصواب أبو أرطاة حصين بن ربيعة وهو ابن عامر بن الأزور ، وهو صحابي بجلي لم أر له ذكرا إلا في هذا الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كأنها جمل أجرب ) بالجيم والموحدة . هو كناية عن نزع زينتها وإذهاب بهجتها . وقال الخطابي : المراد أنها صارت مثل الجمل المطلي بالقطران من جربه ، إشارة إلى أنها صارت سوداء لما وقع فيها من التحريق . ووقع لبعض الرواة - وقيل إنها رواية مسدد - : " أجوف " بواو بدل الراء وفاء بدل الموحدة ، والمعنى أنها صارت صورة بغير معنى ، والأجوف الخالي الجوف مع كبره في الظاهر . ووقع لابن بطال معنى قوله : أجرب أي أسود ، ومعنى قوله : أجوف أي أبيض وحكاه عن ثابت السرقسطي ، وأنكره عياض وقال : هو تصحيف وإفساد للمعنى ، كذا قال ، فإن أراد إنكار تفسير أجوف بأبيض فمقبول ؛ لأنه يضاد معنى الأسود ، وقد ثبت أنه حرقها والذي يحرق يصير أثره أسود لا محالة فيه فكيف يوصف بكونه أبيض ، وإن أراد إنكار لفظ أجوف فلا إفساد فيه فإن المراد أنه صار خاليا لا شيء فيه كما قررته . وفي الحديث مشروعية إزالة ما يفتتن به الناس من بناء وغيره سواء كان إنسانا أو حيوانا أو جمادا ، وفيه استمالة نفوس القوم بتأمير من هو منهم ، والاستمالة بالدعاء والثناء والبشارة في الفتوح ، وفضل ركوب الخيل في الحرب ، وقبول خبر الواحد ، والمبالغة في نكاية العدو ، ومناقب لجرير ولقومه ، وبركة يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه ، وأنه كان يدعو وترا وقد يجاوز الثلاث . وفيه تخصيص لعموم قول أنس : " كان إذا دعا دعا ثلاثا " فيحمل على الغالب ، وكأن الزيادة لمعنى اقتضى ذلك ، وهو ظاهر في أحمس لما اعتمدوه من دحض الكفر ونصر الإسلام ولا سيما مع القوم الذين هم منهم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية