الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الشروط التي لا تحل في النكاح وقال ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها

                                                                                                                                                                                                        4857 حدثنا عبيد الله بن موسى عن زكرياء هو ابن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها [ ص: 127 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 127 ] قوله ( باب الشروط التي لا تحل في النكاح ) في هذه الترجمة إشارة إلى تخصيص الحديث الماضي في عموم الحث على الوفاء بالشرط بما يباح لا بما نهى عنه ، لأن الشروط الفاسدة لا يحل الوفاء بها فلا يناسب الحث عليها .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وقال ابن مسعود لا تشترط المرأة طلاق أختها ) كذا أورده معلقا عن ابن مسعود ، وسأبين أن هذا اللفظ بعينه وقع في بعض طرق الحديث المرفوع عن أبي هريرة ، ولعله لما لم يقع له اللفظ مرفوعا أشار إليه في المعلق إيذانا بأن المعنى واحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ، فإنما لها ما قدر لها ) هكذا أورده البخاري بهذا اللفظ ، وقد أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق ابن الجنيد عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه بلفظ " لا يصلح لامرأة أن تشترط طلاق أختها لتكفئ إناءها " وكذلك أخرجه البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي عن عبيد الله بن موسى لكن قال " لا ينبغي " بدل " لا يصلح " وقال " لتكفئ " ، وأخرجه الإسماعيلي من طريق يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة عن أبيه بلفظ ابن الجنيد لكن قال " لتكفئ " فهذا هـو المحفوظ من هذا الوجه من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة ، وأخرج البيهقي من طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة في حديث طويل أوله " إياكم والظن - وفيه - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ إناء صاحبتها ولتنكح ، فإنما لها ما قدر لها " وهذا قريب من اللفظ الذي أورده البخاري هنا .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج البخاري من أول الحديث إلى قوله ( حتى ينكح أو يترك " ونبهت على ذلك فيما تقدم قريبا في " باب لا يخطب على خطبة أخيه " فإما أن يكون عبيد الله بن موسى حدث به على اللفظين أو انتقل الذهن من متن إلى متن ، وسيأتي في كتاب القدر من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ " لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح ، فإنما لها ما قدر لها " وتقدم في البيوع من رواية الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة في حديث أوله " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد - وفي آخره - ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لا يحل ) ظاهر في تحريم ذلك ، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة أو لضرر يحصل لها من الزوج أو للزوج منها أو يكون سؤالها ذلك بعوض وللزوج رغبة في ذلك فيكون كالخلع مع الأجنبي إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة . وقال ابن حبيب : حمل العلماء هذا النهي على الندب ، فلو فعل ذلك لم يفسخ النكاح وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحل صريح في التحريم ، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح ، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى ، ولترض بما قسم الله لها .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أختها ) قال النووي : معنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته وأن يتزوجها هي فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما كان للمطلقة ، فعبر عن ذلك بقوله ( تكفئ ما في صحفتها ، قال والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين ، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم وإن لم تكن أختا في الدين إما لأن المراد الغالب أو أنها أختها في الجنس الآدمي ، وحمل ابن عبد البر الأخت هنا على الضرة فقال : فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به ، وهذا يمكن في الرواية التي وقعت بلفظ " لا تسأل المرأة طلاق أختها " ، وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط فظاهرها أنها في الأجنبية ويؤيده قوله [ ص: 128 ] فيها " ولتنكح " أي ولتتزوج الزوج المذكور من غير أن يشترط أن يطلق التي قبلها ، وعلى هذا فالمراد هنا بالأخت الأخت في الدين ; ويؤيده زيادة ابن حبان في آخره من طريق أبي كثير عن أبي هريرة بلفظ " لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإن المسلمة أخت المسلمة " وقد تقدم في " باب لا يخطب الرجل على خطبة أخيه " نقل الخلاف عن الأوزاعي وبعض الشافعية أن ذلك مخصوص بالمسلمة ، وبه جزم أبو الشيخ في كتاب النكاح ، ويأتي مثله هنا ، ويجيء على رأي ابن القاسم أن يستثنى ما إذا كان المسئول طلاقها فاسقة ، وعند الجمهور لا فرق .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لتستفرغ صحفتها ) يفسر المراد بقوله " تكتفئ " وهو بالهمز افتعال من كفأت الإناء إذا قلبته وأفرغت ما فيه ، وكذا يكفأ وهو بفتح أوله وسكون الكاف وبالهمز ، وجاء أكفأت الإناء إذا أملته وهو في رواية ابن المسيب " لتكفئ " بضم أوله من أكفأت وهي بمعنى أملته ويقال بمعنى أكببته أيضا ، والمراد بالصحفة ما يحصل من الزوج كما تقدم من كلام النووي ، وقال صاحب النهاية : الصحفة إناء كالقصعة المبسوطة ، قال : وهذا مثل ، يريد الاستئثار عليها بحظها فيكون كمن قلب إناء غيره في إنائه ، وقال الطيبي : هذه استعارة مستملحة تمثيلية ، شبه النصيب والبخت بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة ، وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الصحفة عن تلك الأطعمة ، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به واستعمل في المشبه ما كان مستعملا في المشبه به .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ولتنكح ) بكسر اللام وبإسكانها وبسكون الحاء على الأمر ، ويحتمل النصب عطفا على قوله " لتكتفئ " فيكون تعليلا لسؤال طلاقها ، ويتعين على هذا كسر اللام ، ثم يحتمل أن المراد ولتنكح ذلك الرجل من غير أن تتعرض لإخراج الضرة من عصمته بل تكل الأمر في ذلك إلى ما يقدره الله ، ولهذا ختم بقوله " فإنما لها ما قدر لها " إشارة إلى أنها وإن سألت ذلك وألحت فيه واشترطته فإنه لا يقع من ذلك إلا ما قدره الله ، فينبغي أن لا تتعرض هي لهذا المحذور الذي لا يقع منه شيء بمجرد إرادتها ، وهذا مما يؤيد أن الأخت من النسب أو الرضاع لا تدخل في هذا ، ويحتمل أن يكون المراد ولتنكح غيره وتعرض عن هذا الرجل ، أو المراد ما يشمل الأمرين ، والمعنى ولتنكح من تيسر لها فإن كانت التي قبلها أجنبية فلتنكح الرجل المذكور وإن كانت أختها فلتنكح غيره ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية