الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب نسخ الضيف يأكل من مال غيره

                                                                      3753 حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية فنسخ ذلك الآية التي في النور قال ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أشتاتا كان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام قال إني لأجنح أن آكل منه والتجنح الحرج ويقول المسكين أحق به مني فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وأحل طعام أهل الكتاب

                                                                      التالي السابق


                                                                      أي : نسخ حرمة الضيافة ، فإن الضيف كما جاء صفة جاء مصدرا أيضا . قال في القاموس : ضفته أضيفه ضيفا وضيافة بالكسر نزلت عليه ضيفا ( في الأكل من مال غيره ) أي : هذا الباب منعقد لإثبات أن الضيافة في الأكل من مال غيره التي كانت محرمة بآية النساء الآتي ذكرها قد صارت منسوخة بآية النور ، واعلم أنها هنا أربعة نسخ أحدها هي التي مر ذكرها ، والثانية باب نسخ الضيف يأكل من مال غيره ، وهذه النسخة والنسخة الأولى متقاربان ، والثالثة باب ما جاء في نسخ الضيف في الأكل من مال غيره إلا بتجارة ، وهكذا في نسخة الخطابي من رواية ابن داسة ، فقوله في نسخ الضيف أي : في نسخ حرمة الضيافة وقوله : إلا بتجارة وإن لم تذكر في النسختين السابقتين لكنها مرادة بلا شبهة ، فالنسخ الثلاث في المال واحد والنسخة الرابعة باب نسخ الضيق في الأكل من مال غيره ، والمراد بالضيق الحرمة ؛ لأنها سبب الضيق على المكلفين كما أن الإباحة سعة ؛ لأنها سبب السعة عليهم ، وهذه النسخة أعم من النسخ الثلاث السابقة ؛ لأن الحرمة في هذه النسخة مطلقة غير مقيدة بالضيافة بخلاف النسخ المتقدمة ، فإن الحرمة في جميعها مقيدة بالضيافة ، وهذه النسخة هي التي ينطبق عليها حديث الباب انطباقا تاما بخلاف سائر النسخ السابقة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ، فهذه النسخة أولى النسخ المذكورة كلها . كذا أفاد بعض الأماجد في تعليقات السنن .

                                                                      وقال بعض الأعاظم : وأما قوله باب نسخ الضيف في الأكل من مال غيره ، ففيه [ ص: 175 ] حذف المضاف وهو الحكم فحق العبارة باب نسخ حكم الضيف في الأكل من مال غيره وهو المنع المستفاد من قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم لأن الآية عند ابن عباس ومن تبعه تدل على أن أكل مال الغير لا يجوز بوجه من الوجوه إلا أن تكون تجارة عن تراض منهم ، فالتجارة بالتراضي هي الصورة المستثناة غير منهي عنها خاصة لا غيرها ، فدخل في الأكل المنهي عنه أكل الضيف والغني من بيوت الغير من دون التجارة فنسخ الله عز وجل ذلك الحكم بقوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله : أشتاتا فرخص لهم في الأكل في هذه الصور المذكورة في الآية التي ليست فيها تجارة ، هذا إن صح هذه النسخة وإلا فالأظهر أن في هذه الترجمة تصحيفا من بعض النساخ ، والصحيح باب نسخ الضيق في الأكل من مال غيره كما في بعض النسخ وهو الذي لا غبار عليه والله أعلم ، انتهى .

                                                                      ( قال ) ابن عباس في تفسير قوله تعالى الذي في النساء ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك ، وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيها على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل ؛ لأن معظم المقصود من المال الأكل ، وقيل : يدخل فيه أكل مال نفسه بالباطل ومال غيره ، أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي ، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه ، وقيل : يدخل في أكل المال بالباطل جميع العقود الفاسدة ، قاله الخازن .

                                                                      قال السيوطي في الدر المنثور : أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال : " إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة " . وأخرج ابن جرير وابن حاتم عن السدي في الآية قال : " أما أكلهم أموالهم بينهم بالباطل فالزنا والقمار والبخس والظلم إلا أن تكون تجارة فليرب الدرهم ألفا إن استطاع " وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن في الآية قال : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك بالآية التي في النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية ، انتهى كلام السيوطي .

                                                                      وفي الخازن : قيل لما نزلت ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قالوا لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فأنزل الله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلا أن تكون تجارة [ ص: 176 ] أي : إلا أن تكون التجارة ، قاله النسفي عن تراض منكم هذا الاستثناء منقطع ؛ لأن التجارة عن تراض ليست من جنس أكل المال بالباطل ، فكأن إلا هاهنا بمعنى لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض ، يعني بطيبة نفس كل واحد منكم ، وقيل : هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا والله أعلم .

                                                                      وبيان مقصود الباب أنه لما نزل قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم حرم بذلك أكل الرجل من مال غيره مطلقا إلا بتجارة صادرة عن تراض ، فقد وقع بسبب تلك الحرمة ضيق على المكلفين في الأكل من مال غيره ، قال ابن عباس : ( فكان الرجل يحرج ) من باب التفعيل أي : يحسب الرجل الوقوع في الحرج والإثم وكان يجتنب ( أن يأكل عند أحد من الناس ) سواء كان مسلما أو كتابيا أو غيرهما وسواء كان ذلك الطعام مما ذكر عليه اسم الله أو لم يكن .

                                                                      وذلك ( بعدما نزلت هذه الآية ) الكريمة التي في النساء وهي قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية ، لأنها حرمت الأكل من مال الغير إلا بتجارة عن تراض .

                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : " لما نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو من أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل من عند أحد ، فكف الناس عن ذلك ، فأنزل الله ليس على الأعمى حرج الآية " ، انتهى ( فنسخ ذلك ) أي : الحكم الذي فهمه المسلمون وقالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل من عند أحد ونسخ ذلك أي : الضيق الذي كان قد حصل في الأكل من مال غيره بسبب نزول الآية المذكورة ( الآية ) بالرفع فاعل نسخ ( التي في النور قال ) الله تعالى في تلك الآية التي في النور ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أشتاتا ليست التلاوة هكذا ، فهذا النقل الذي في الكتاب إنما هو نقل بالمعنى لا باللفظ ، وتمام الآية مع تفسيرها هكذا ولا على أنفسكم أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم أي : بيوت أولادكم لأن ولد الرجل بعضه ، [ ص: 177 ] وحكمه حكم نفسه ، ولذا لم يذكر الأولاد في الآية ، وثبت في الحديث : أنت ومالك لأبيك أو بيوت أزواجكم لأن الزوجين صارا كنفس واحدة ، فصار بيت المرأة كبيت الزوج أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه .

                                                                      قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمرة ضيعته ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر أو صديقكم الصديق هو الذي صدقك في المودة .

                                                                      قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو خرج غازيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

                                                                      والمعنى أنه ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا من غير أن تتزودوا وتحملوا ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا ) أي : مجتمعين ( أو أشتاتا ) أي : متفرقين نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة ، كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يأتي من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل .

                                                                      وقال ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : والله لأجنح أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية .

                                                                      وقيل : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرقين ، قاله العلامة الخازن في تفسيره .

                                                                      وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل معهم ، انتهى فنزلت رخصة لهم ، انتهى .

                                                                      قال ابن عباس ( كان الرجل يعني الغني ) الداعي قبل ما نزلت آية النور وبعد ما نزلت [ ص: 178 ] آية النساء ( يدعو الرجل ) الغني المدعو ( من أهله إلى الطعام قال ) ذلك الرجل الغني المدعو ( إني لأجنح ) بتشديد الجيم والنون أصله أتجنح تفعل من الجناح أي : أرى الأكل منه جناحا وإثما ( أن آكل منه ) أي : أرى الأكل من طعامك جناحا وإثما ، وذلك لأجل آية النساء ( والتجنح الحرج ) هذا تفسير من المؤلف أو من بعض الرواة والحرج الضيق ، والمراد به خوف الوقوع في الضيق أي : الحرمة والإثم ( ويقول ) ذلك الرجل المدعو للرجل الغني الداعي أيضا ( المسكين أحق به ) أي : بهذا الطعام ( مني ) فأعطه المسكين ( فأحل ) بصيغة المجهول ( في ذلك ) أي : في قوله تعالى الذي في النور ( أن يأكلوا ) من مال غيرهم إذا كان الغير ممن ذكر في هذه الآية حال كون ذلك المال مما ذكر اسم الله عليه بخلاف ما لم يذكر اسم الله عليه فإنه لم يدخل في الحل لكونه باقيا على حرمته كما كان ( وأحل ) في ذلك ( طعام أهل الكتاب ) أيضا أن يؤكل كما أحل في ذلك طعام المسلمين أن يؤكل لكون الآية عامة غير مختصة بأحد الفريقين ، فإن آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم وما ملكتم مفاتحه وصديقكم المذكورة في هذه الآية كلها عامة شاملة للفريقين غير مختصة بأحدهما وكذا لفظ " أو " في بيوتكم الذي أريد به بيوت أولادكم .

                                                                      فهذا الباب من متممات الباب الأول ومؤيد لمعناه لأن ظاهر آية النساء يدل على نسخ أكل الضيافة على ما قاله ابن عباس فأثبت المؤلف - رحمه الله - حكم جواز الضيافة بآية النور وجعل حكم آية النساء منسوخا بآية النور فثبت بذلك حكم جواز الضيافة ونسخ عدم جوازها ، فقول العلامة السيوطي في مرقاة الصعود تحت باب ما جاء في الضيافة ، وقد نسخ وجوب الضيافة وأشار إليه أبو داود في الباب الذي عقده بعدها ، انتهى ، لم يظهر لي معنى كلامه ولم يتضح لي كيف يكون الباب الثاني ناسخا لحكم الباب الأول ، إلا أن يقال : إن الباب الأول فيه حكم وجوب الضيافة ، والباب الثاني فيه نفي الحرج والإثم عن الضيافة ، فالأمر الواجب ليس من شأنه أن يقال له إن فعله ليس بإثم ولا حرج ، فثبت بذلك نسخ للوجوب ، وفي هذا الكلام بعد والله أعلم .

                                                                      قال المنذري : في إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال ، انتهى .




                                                                      الخدمات العلمية