الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 252 ] ذكر حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم ، واسمه هزومة بن ربيعة بن جرول بن تعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ أبو سفانة الطائي والد عدي بن حاتم الصحابي كان جوادا ممدحا في الجاهلية ، وكذلك كان ابنه في الإسلام ، وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة ، وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها ، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة ، وإنما كان قصده السمعة والذكر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبيد بن واقد القيسي حدثنا أبو مضر هو الناجي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ذاك أراد أمرا فأدركه حديث غريب قال الدارقطني : تفرد به عبيد بن واقد عن أبي مضر الناجي ، ويقال : إن اسمه حماد قال ابن عساكر : وقد فرق [ ص: 253 ] أبو أحمد الحاكم بين أبي مضر الناجي وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي ، ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن أبي نضر شيبة الناجي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك ؟ يعني : من أجر قال : إن أباك طلب شيئا فأصابه . وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر عن شعبة عن سماك به ، وقال : إن أباك أراد أمرا فأدركه يعني الذكر ، وهكذا رواه أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد عن شعبة به سواء . وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم ، منهم الرجل الذي ينفق ليقال : إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا ، وكذا في العالم والمجاهد ، وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 254 ] عن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له : كان يقري الضيف ويعتق ويتصدق فهل ينفعه ذلك ؟ فقال : إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين هذا وقد كان من الأجواد المشهورين أيضا المطعمين في السنين الممحلة والأوقات المرملة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي حدثنا ضرار بن صرد حدثنا عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الرحمن بن جندب عن كميل بن زياد النخعي قال قال علي بن أبي طالب : يا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في خير ، عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبيل النجاح فقام إليه رجل وقال : فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين ، أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وما هو خير منه لما أتي بسبايا طيئ وقعت جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء شماء الأنف ، معتدلة القامة والهامة ، درماء الكعبين ، خدلة الساقين ، لفاء الفخذين ، خميصة الخصرين ، ضامرة الكشحين ، مصقولة المتنين قال : فلما رأيتها أعجبت بها ، وقلت : لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلها في فيئي فلما [ ص: 255 ] تكلمت أنسيت جمالها; لما رأيت من فصاحتها فقالت : يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي ، وإن أبي كان يحمي الذمار ، ويفك العاني ، ويشبع الجائع ، ويكسو العاري ، ويقري الضيف ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ولم يرد طالب حاجة قط ، وأنا ابنة حاتم طيئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مؤمنا لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله تعالى يحب مكارم الأخلاق فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله والله يحب مكارم الأخلاق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني عمر بن بكر عن أبي عبد الرحمن الطائي - هو الهيثم بن عدي - عن ملحان عن عركي بن حلبس الطائي عن أبيه عن جده - وكان أخا عدي بن حاتم لأمه - قال : قيل لنوار امرأة حاتم : حدثينا عن حاتم قالت : كل أمره كان عجبا; أصابتنا سنة حصت كل شيء فاقشعرت لها الأرض واغبرت لها السماء ، وضنت المراضع على أولادها ، وراحت الإبل حدباء حدابير ما تبض بقطرة ، [ ص: 256 ] وحلق المال ، وإنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين ، إذ تضاغى الأصبية من الجوع; عبد الله وعدي وسفانة فوالله إن وجدنا شيئا نعللهم به فقام إلى أحد الصبيين فحمله ، وقمت إلى الصبية فعللتها فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل ، ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد ، ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل فأضجعنا الصبيان عليها ، ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا ، ثم أقبل علي يعللني لأنام ، وعرفت ما يريد فتناومت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال مالك أنمت ؟ فسكت . فقال : ما أراها إلا قد نامت وما بي نوم فلما ادلهم الليل ، وتهورت النجوم ، وهدأت الأصوات ، وسكنت الرجل إذا جانب البيت قد رفع فقال : من هذا ؟ فولى حتى إذا قلت : قد أسحرنا أو كدنا عاد . فقال : من هذا ؟ قالت : جارتك فلانة يا أبا عدي ما وجدت على أحد معولا غيرك ، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئب من الجوع . قال : أعجليهم علي قالت النوار : فوثبت فقلت : ماذا صنعت ؟ والله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها ؟ فقال : اسكتي فوالله لأشبعنك وإياهم إن شاء الله . قالت : فأقبلت تحمل اثنين وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته ، ثم قدح زنده ، وأورى ناره ، ثم جاء بمدية [ ص: 257 ] فكشط عن جلده ، ثم دفع المدية إلى المرأة ، ثم قال : دونك ، ثم قال : ابغني صبيانك فبغيتهم ، ثم قال : سوأة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم ؟ فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه والتفع في ثوبه ، ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا ، لا والله ما ذاق مزعة ، وإنه لأحوجهم إليه فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم أو حافر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الدارقطني : حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي حدثنا عبد الله بن أبي سعد ، وحدثنا غنم بن ثوابة بن حميد الطائي عن أبيه عن جده قال : قالت امرأة حاتم لحاتم : يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاما وحدنا ليس عليه أحد فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ ، وأمر بالطعام فهيئ ، وهي مرخاة ستورها عليه وعليها فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا تطبخي قدري وسترك دونها علي إذن ما تطبخين حرام [ ص: 258 ]     ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بجزل إذا أوقدت لا بضرام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ثم كشف الستور وقدم الطعام ، ودعا الناس فأكل وأكلوا فقالت : ما أتممت لي ما قلت فأجابها : فإني لا تطاوعني نفسي ونفسي أكرم علي من أن يثنى علي هذا وقد سبق لي السخاء ، ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أمارس نفس الجود حتى أعزها     وأترك نفس البخل ما أستشيرها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا تشتكيني جارتي غير أنها     إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سيبلغها خيري ويرجع بعلها     إليها ولم تقصر عليها ستورها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعر حاتم


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما بت أشرب فوق ريي     لسكر في الشراب فلا رويت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما بت أختل عرس جاري     ليخفيني الظلام فلا خفيت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أأفضح جارتي وأخون جاري     فلا والله أفعل ما حييت

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 259 ] ومن شعره أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما ضر جارا لي أجاوره     أن لا يكون لبابه ستر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أغضي إذا ما جارتي برزت     حتى يواري جارتي الخدر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعر حاتم أيضا


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما من شيمتي شتم ابن عمي     وما أنا مخلف من يرتجيني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة حاسد من غير جرم     سمعت وقلت مري فانفذيني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعابوها علي فلم تعبني     ولم يعرق لها يوما جبيني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذي وجهين يلقاني طليقا     وليس إذا تغيب يأتسيني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ظفرت بعيبه فكففت عنه     محافظة على حسبي وديني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعره


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سلي البائس المقرور يا أم مالك     إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أأبسط وجهي إنه أول القرى     وأبذل معروفي له دون منكري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 260 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإنك إن أعطيت بطنك سؤله     وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري : حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حدثنا أبو العباس المبرد أخبرني الثوري عن أبي عبيدة قال : لما بلغ حاتم طيئ قول المتلمس


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قليل المال تصلحه فيبقى     ولا يبقى الكثير على الفساد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحفظ المال خير من فناه     وعسف في البلاد بغير زاد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا الجود يفني المال قبل فنائه     ولا البخل في مال الشحيح يزيد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا تلتمس مالا بعيش مقتر     لكل غد رزق يعود جديد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر أن المال غاد ورائح     وأن الذي يعطيك غير بعيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي أبو الفرج : ولقد أحسن في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأن الذي يعطيك غير بعيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو كان مسلما لرجي له الخير في معاده ، وقد قال الله في كتابه واسألوا الله من فضله [ النساء : 32 ] وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ البقرة : 186 ] وعن الوضاح بن معبد الطائي قال : وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر ، [ ص: 261 ] فأكرمه وأدناه ، ثم زوده عند انصرافه حملين ذهبا وورقا ، غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيئ فقالت : يا حاتم أتيت من عند الملك ، وأتينا من عند أهالينا بالفقر فقال حاتم : هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له : اتق الله وأبق على نفسك فما يدع هؤلاء دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالت طريفة ما تبقى دراهمنا     وما بنا سرف فيها ولا خرق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا     ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما يألف الدرهم الكاري خرقتنا     إلا يمر عليها ثم ينطلق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا     ظلت إلى سبل المعروف تستبق



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر بن عياش : قيل لحاتم : هل في العرب أجود منك ؟ فقال : كل العرب أجود مني . ثم أنشأ يحدث قال : نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة ، وكانت له مائة من الغنم فذبح لي شاة منها وأتاني بها فلما قرب إلي دماغها قلت : ما أطيب هذا الدماغ قال : فذهب فلم يزل يأتيني [ ص: 262 ] منه حتى قلت قد اكتفيت فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شيء له . فقيل : فما صنعت به ؟ فقال : ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء . قال : على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق : حدثنا العباس بن الفضل الربعي حدثنا إسحاق بن ابراهيم حدثني حماد الراوية ومشيخة من مشيخة طيئ قالوا : كانت غنية بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طيئ لا تمسك شيئا سخاء وجودا وكان إخوتها يمنعونها فتأبى ، وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع ، ثم أخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق فدفعوا إليها صرمة من مالها ، وقالوا : استمتعي بها فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها فقالت : دونك هذه الصرمة فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلا ، ثم أنشأت تقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لعمري لقدما عضني الجوع عضة     فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني     وإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم     سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا [ ص: 263 ]
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وماذا ترون اليوم إلا طبيعة     فكيف بتركي يا ابن أمي الطبائعا



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الهيثم بن عدي عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم عن أبيه عن جده قال : شهدت حاتما يكيد بنفسه فقال لي أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال : والله ما خاتلت جارة لريبة قط ولا ائتمنت على أمانة إلا أديتها ولا أوتي أحد من قبلي بسوء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو بكر الخرائطي : حدثنا علي بن حرب حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العدوي حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين - يعني جعفر بن المحرز بن الوليد - عن المحرر مولى أبي هريرة قال : مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيئ فنزلوا قريبا منه فقام إليه بعضهم يقال له : أبو الخيبري فجعل يركض قبره برجله ، ويقول : يا أبا الجعراء أقرنا فقال له بعض أصحابه ما تخاطب من رمة وقد بليت وأجنهم الليل فناموا فقام صاحب القول فزعا يقول : يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما أتاني في النوم ، وأنشدني شعرا وقد حفظته يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 264 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبا خيبري وأنت امرؤ     ظلوم العشيرة شتامها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أتيت بصحبك تبغي القرى     لدى حفرة صخب هامها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تبغي لي الذنب عند المبيت     وحولك طي وأنعامها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإنا لنشبع أضيافنا     وتأتي المطي فنعتامها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيرا فنحروها ، وقاموا يشتوون ويأكلون ، وقالوا : والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا . قال : وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم ، وساروا فاذا رجل ينوه بهم راكبا جملا ويقود آخر فقال : أيكم أبو الخيبري ؟ قال : أنا قال : إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك ، وأمرني أن أحملك . وهذا بعير فخذه ، ودفعه إليه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية