الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخرقي صاحب " المختصر " المشهور في الفقه ، عمر بن الحسين بن عبد الله ، أبو القاسم الخرقي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب " المختصر " في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وقد شرحه القاضي أبو يعلى بن الفراء ، والشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي ، وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد ، كثير الفضائل [ ص: 172 ] والعبادة ، خرج من بغداد لما كثر بها السب للصحابة ، وأودع كتبه ببغداد ، فاحترقت الدار التي هي فيها ، وعدمت مصنفاته ، وقصد دمشق فأقام بها حتى مات في هذه السنة ، وقبره بباب الصغير يزار قريبا من قبور الشهداء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي مصنفه هذا " المختصر " في كتاب الحج : ويأتي الحجر الأسود ويقبله إن كان هناك . وإنما قال ذلك لأن تصنيفه لهذا الكتاب كان حال كون الحجر الأسود بأيدي القرامطة حين أخذوه من مكانه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة كما ذكرنا ، ولم يردوه إلا سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، كما سيأتي بيانه في موضعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب : قال لي القاضي أبو يعلى : كانت له مصنفات كثيرة وتخريجات على المذهب لم تظهر; لأنه خرج عن مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة ، وأودع كتبه ، فاحترقت الدار التي هي فيها ، واحترقت الكتب فيها ولم تكن قد انتشرت ; لبعده عن البلد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم روى الخطيب من طريقه ، عن أبي الفضل بن عبد السميع الهاشمي ، عن الفتح بن شخرف ، قال : رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ ص: 173 ] في المنام فقال لي : ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء ! قال : قلت : زدني يا أمير المؤمنين . قال : وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء . قال : ورفع لي كفه فإذا فيها مكتوب :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد كنت ميتا فصرت حيا وعن قليل تصير ميتا     فابن بدار البقاء بيتا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ودع بدار الفناء بيتا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن بطة : مات الخرقي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، وزرت قبره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن عيسى أبو عبد الله بن أبي موسى

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الفقيه الحنفي ، أحد أئمة العراقيين في زمانه ، وولي القضاء ببغداد للمتقي ، ثم للمستكفي ، وكان ثقة فاضلا ، كبست اللصوص داره فظنوه أنه ذو مال ، فضربه بعضهم ضربة أثخنته ، فهرب منهم إلى السطوح ، فألقى نفسه من شدة الفزع إلى الأرض ، فمات رحمه الله في ربيع الأول من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله أبو الفضل السلمي ، الوزير الفقيه المحدث الشاعر ، سمع الكثير وجمع وصنف ، وكان يصوم الاثنين والخميس ولا يدع صلاة الليل والتصنيف ، وكان يسأل الله الشهادة كثيرا ، [ ص: 174 ] فولي الوزارة للسلطان ، فقصده الأجناد يطالبونه بأرزاقهم ، واجتمع منهم ببابه خلق كثير ، فاستدعى بحلاق فحلق رأسه ، وتنور وتطيب ولبس كفنه ، وقام يصلي ، فدخلوا عليه فقتلوه وهو ساجد - رحمه الله - في ربيع الآخر من هذه السنة . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الإخشيد محمد بن عبد الله بن طغج بن جف أبو بكر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الملقب بالإخشيد ، ومعناه ملك الملوك ، لقبه بذلك الراضي ; لأنه كان ملك فرغانة وكل من ملكها كان يسمى الإخشيد كما أن من ملك أشروسنة يسمى الإفشين ، ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه ، ومن ملك جرجان يسمى صول ، ومن ملك أذربيجان يسمى إصبهبذ ، ومن ملك طبرستان يسمى سالار . قاله ابن الجوزي في " المنتظم " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال السهيلي : وكانت العرب تسمي من ملك الشام مع الجزيرة كافرا قيصر ، ومن ملك الفرس يسمى كسرى ، ومن ملك اليمن يسمى تبعا ، ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الهند بطليموس ، ومن ملك [ ص: 175 ] مصر كافرا يسمى فرعون ، ومن ملك إسكندرية يسمى المقوقس وذكر غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت وفاته بدمشق ، ونقل إلى بيت المقدس فدفن هناك ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو بكر الشبلي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد مشايخ الصوفية ، اختلفوا في اسمه على أقوال ، فقيل : دلف بن جعفر ، ويقال : دلف بن جحدر ، وقيل : جعفر بن يونس . أصله من قرية يقال لها : شبلية . من بلاد أشروسنة من خراسان وولد بسامراء ، وكان أبوه حاجب الحجاب للموفق ، وكان خاله نائب إسكندرية ، وكانت توبة الشبلي على يدي خير النساج ، سمعه يعظ ، فوقع كلامه في قلبه ، فتاب من فوره ، ثم صحب الفقراء والمشايخ ، ثم كان بعد ذلك من أئمة القوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 176 ] قال الجنيد بن محمد : كان الشبلي تاج هؤلاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الخطيب : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمود الزوزني ، قال : سمعت علي بن المثنى التميمي يقول : دخلت على الشبلي في داره ، وهو يهيج ويقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      على بعدك لا يصب     ر من عادته القرب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولا يقوى على حجب     ك من تيمه الحب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن لم ترك العين     فقد يبصرك القلب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر له أحوال وكرامات . وقد ذكرنا أنه ممن اشتبه عليه أمر الحلاج ووافقه في بعض ما نسب إليه من الأقوال من غير تأمل لما تحتها ، مما كان الحلاج يحاوله من الإلحاد والاتحاد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما حضرته الوفاة قال لخادمه : قد كان علي درهم من مظلمة ، فتصدقت عن صاحبه بألوف ، ومع هذا ما على قلبي شغل أعظم منه . ثم أمره بأن يوضئه ، فوضأه وترك تخليل لحيته ، فرفع يده - وكان قد اعتقل [ ص: 177 ] لسانه - فجعل يخلل لحية نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكره القاضي ابن خلكان في " الوفيات " وحكى عنه أنه دخل يوما على الجنيد ، فوقف بين يديه ، وصفق وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عودوني الوصال والوصل عذب     ورموني بالصد والصد صعب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      زعموا حين أزمعوا أن ذنبي     فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا وحق الخضوع عند التلاقي     ما جزا من يحب إلا يحب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومما كان ينشده الشبلي من الأشعار الرقيقة ، وقد أورده ابن عساكر في ترجمته من " تاريخه " :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أسائلكم عنها فهل من مخبر     فما لي بنعمى بعد مكثتنا علم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو كنت أدري أين خيم أهلها     وأي بلاد الله إذ ظعنوا أموا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا لسلكنا مسلك الريح خلفها     ولو أصبحت نعمى ومن دونها النجم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أسائل عن سلمى فهل من مخبر     بأن له علما بها أين تنزل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم يقول : لا وعزتك ، وما في الدارين عنك مخبر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وفي هذا شطح ; فقد خبرت عنه تعالى الرسل بالحق ونطقوا [ ص: 178 ] بالصدق . وكان يقول : ليس لعارف علامة ، ولا لمحب شكوى ، ولا لعبد دعوى ، ولا لخائف قرار ، ولا من الله فرار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الشبلي يقول : العارف صدره مشروح ، وقلبه مجروح ، وجسده مطروح ، والعارف من عرف الله ، وعرف مراد الله ، وعمل بما أمر الله ، وأعرض عما نهى الله ، ودعا عباد الله إلى الله ، والصوفي من صفى قلبه من الكدر فصفا ، وسلك طريق المصطفى ، ورمى الدنيا خلف القفا ، وأذاق الهوى طعم الجفا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : الصوفي من صفا من الكدر ، وخلص من الغير ، وامتلأ من الفكر ، وتساوى عنده الذهب والمدر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومما كان ينشده :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أظلت علينا منك يوما سحابة     أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا غيمها يجلو فييأس طامع     ولا غيثها يأتي فيروى عطاشها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسئل : هل يتحقق العارف بما يبدو له من الآثار ؟ فقال : كيف يتحقق بما لا يثبت ؟ وكيف يطمئن إلى ما لا يظهر ؟ وكيف يأنس بما يخفى ؟ فهو الظاهر الباطن . ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فمن كان في طول الهوى ذاق سلوة     فإني من ليلى لها غير ذائق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 179 ] وأكثر شيء نلته من وصالها     أماني لم تصدق كلمحة بارق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقول : الدنيا خيال ، وظلها وبال ، وتركها جمال ، والإعراض عنها كمال ، والمعرفة بالله اتصال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لتحشرن عظامي بعد إذ بليت     يوم الحساب وفيها حبكم علق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسئل الشبلي : هل يتسلى الحبيب بشيء من حبيبه دون مشاهدته ؟ فأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والله لو أنك توجتني     بتاج كسرى ملك المشرق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو بأموال الورى جدت لي     أموال من باد ومن قد بقي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقلت لا نلتقي ساعة     اخترت يا مولاي أن نلتقي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان ينشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا     كفى لمطايانا بذكرك هاديا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان ينشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو أن ركبا أمموك لقادهم     نسيمك حتى يستدل بك الركب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أبصرتك العين من بعد غاية     وعارض فيك الشك أثبتك القلب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 180 ] وكان ينشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليس تخلو جوارحي منك وقتا     هي مشغولة بحمل هواكا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليس يجري على لساني شيء     علم الله ذا سوى ذكراكا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتمثلت حيث كنت بعيني     فهي إن غبت أو حضرت تراكا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان ينشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عجبت لمن يقول نسيت إلفي     وهل أنسى فأذكر من هويت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أموت إذا ذكرتك ثم أحيا     ولولا ما أؤمل ما حييت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأحيا بالمنى وأموت شوقا     فكم أحيا عليك وكم أموت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جعلت الصمت ستر الحب حتى     تكلمت الجفون بما لقيت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شربت الحب كأسا بعد كأس     فما نفد الشراب وما رويت

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : التصوف ترويح القلب بمراوح الصفاء ، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء ، والتخلق بالسخاء ، والبشر في اللقاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونظر يوما إلى جماعة من المتصوفة فأنشأ :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أما الخيام فإنها كخيامهم     وأرى نساء الحي غير نسائها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 181 ] إذا أردت أن تنظر إلى الدنيا بحذافيرها ، فانظر إلى المزبلة ، وإذا أردت أن تنظر إلى نفسك فخذ كفا من تراب ; فإنك منها خلقت ، وفيها تعود ، ومنها تخرج ، وإذا أردت أن تعرف ما أنت ، فانظر إلى ما يخرج منك عند الخلاء ، فلا تتطاول ولا تتكبر على من هو مثلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان ينشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتحسبني حيا وإني لميت     وبعضي من الهجران يبكي على بعض

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكذبت طرفي فيك والطرف صادق     وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم أسكن الأرض التي تسكنونها     لكي لا يقولوا إنني بك مولع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا كبدي تهدا ولا فيك رحمة     ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا ساقي القوم لا تنسني     ويا ربة الخدر غني رمل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خليلي إن دام هذا الصدود     على ما أراه سريعا قتل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان شيئا يسمى السرور     قديما سمعنا به ما فعل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسئل الشبلي عن الرجل يسمع الشيء فلا يفهمه ، ويتواجد مع ذلك ، فأنشأ يقول :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 182 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رب ورقاء هتوف بالضحى     ذات شجو صدحت في فنن
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكرت إلفا ودهرا صالحا     فبكت حزنا فهاجت حزني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فبكائي ربما أرقها     وبكاها ربما أرقني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أشكو فما أفهمها     ولقد تشكو فما تفهمني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      غير أني بالجوى أعرفها     وهي أيضا بالجوى تعرفني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ووجد في كلام الشبلي : ما ظنك بمعان هي شموس كلها ; بل الشموس فيها ظلمة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا : الوجد اصطلام . ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الوجد عني جحود     ما لم يكن عن شهود
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشاهد الحق عندي     يفني شهود الوجود

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان ينشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الكل مني بلائي     وراحتي في فنائي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسمع القوال يوما ، فتواجد كثيرا والمشايخ سكوت لم يتواجد منهم أحد ، فعاتبه بعض المشايخ في ذلك ، فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لو يسمعون كما سمعت حديثها     خروا لعزة ركعا وسجودا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 183 ] وأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لي سكرتان وللندمان واحدة     شيء خصصت به من بينهم وحدي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنت إذا ما جئت جئت لعلة     فأفنيت علاتي فكيف أقول
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا لم يكن بيني وبينك مرسل     فريح الصبا مني إليك رسول

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومنه أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكم كذبة لي فيك لا أستقيلها     أقول لمن ألقاه إني صالح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأي صلاح لي وجسمي ناحل     وقلبي مشغوف ودمعي سافح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد يوما ، وجلس عنده شاب أمرد ، وعليه ثياب حسان ، فطرده من عنده ، ثم قال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      طرحوا اللحم للبزا     ة على ذروتي عدن
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم لاموا البزاة كم     طولوا فيهم الرسن
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لو أرادوا صلاحنا     سروا وجهه الحسن

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى ابن عساكر عن أبي علي بن مقلة الكاتب ، أنه أنشد له في معنى هذا بيتين أخطأ فيهما :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا رب تخلق أقمار ليل     وأغصان بان وكثبان رمل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتبدع في كل طرف بسحر     وفي كل قد رشيق بكل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتنهى عبادك أن يعشقوا     أيا حكم العدل أحكم بعدل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 84 ] قلت : نعم ، إن الله إنما ينهى عن الفحشاء ، وهو الحكم بالعدل في كل ما أمر به وكل ما ينهى عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وللشبلي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيوما ترانا في الخزوز نجرها     ويوما ترانا في الحديد عوابسا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويوما ترانا للثريد نبسه     ويوما ترانا نأكل الخبز يابسا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسافر الشبلي مرة إلى البصرة فلما عاد إلى بغداد سمع جارة للخليفة المقتدر تغنيه وهو في التاج من دار الخلافة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا     أيا ذاك لا أنساك ما هبت الصبا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قدمت على قلبي كما قد تركته     كئيبا حزينا بالصبابة متعبا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصاح الشبلي صيحة ، وخر مغشيا عليه في دجلة ، فتداركه الناس ، فأخرجوه ، وأمر الخليفة بإحضاره ، فقال : أنت مجنون . قال : لا ، ولكني قدمت من سفر ، فسمعت هذه تغنيك بهذين البيتين ، فحصل لي ما حصل ، فبكى الخليفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الشبلي ينشد ، وسمعته كثيرا من شيخنا العلامة أبي العباس ابن تيمية - رحمه الله - ينشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى     وصوت إنسان فكدت أطير

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 185 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الناس بالعيد قد سروا وقد فرحوا     وما سررت به والواحد الصمد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما تيقنت أني لا أعاينكم     غمضت عيني فلا أنظر إلى أحد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل له : إن فلانا مات فجاءة . فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قضى الله في القتلى قصاص دمائهم     ولكن دماء العاشقين جبار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جننا على ليلى وجنت بغيرنا     وأخرى بنا مجنونة ما نريدها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا راحتي وعذابي من عذابي     أنت ما بي فكيف أكتم ما بي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو قلت طأ في النار بادرت نحوها     سرورا لأني قد خطرت ببالكا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما مرض الشبلي بعث إليه المقتدر طبيبا نصرانيا ، فقال له الطبيب : فلو علمت أن قطع بعض جسدي يشفيك لقطعته . فقال له : يشفيني قطع ما هو أيسر عليك من ذلك . فقال : وما هو ؟ قال : قطع زنارك . فقطعه وأسلم ، فبلغ ذلك الخليفة ، فقال : بعثنا طبيبا إلى عليل ، فإذا هو عليل إلى طبيب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ولما احتضر جعل من عنده يقولون : قل : لا إله إلا الله ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن بيتا أنت ساكنه     غير محتاج إلى السرج
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 186 ] وجهك المأمول حجتنا     يوم يأتي الناس بالحجج

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر ابن عساكر أنه كان يقول : أخشى أن أموت بين النفي والإثبات ، لا إله إلا الله ، وإنما كان ذكره : الله الله ، ويحتج بقوله : قل الله [ الأنعام : 91 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيما نحاه نظر ، فقد قال الله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله [ محمد : 19 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفضل ما قلت أنا والنبيون قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر عنه أنه قال : رأيت مجنونا على باب جامع الرصافة يوم جمعة وهو عريان ، وهو يقول : أنا مجنون الله ، أنا مجنون الله . فقلت : ألا تستتر وتدخل مع الناس فتصلي ، فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يقولون زرنا واقض واجب حقنا     وقد أسقطت حالي حقوقهم عني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها     ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الخطيب في " تاريخه " عنه أنه أنشد لنفسه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى     دمعان في الأجفان يزدحمان
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما أنصفتني الحادثات رمينني     بمودعين وليس لي قلبان

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت وفاته - رحمه الله - ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من هذه السنة ، وله سبع وثمانون سنة ، ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية