الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحمد بن علي ، أبو الحسن البتي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان يكتب للقادر وهو بالبطيحة ، ثم كتب له على ديوان الخبر والبريد ، وكان يحفظ القرآن حفظا حسنا ، مليح الصوت والتلاوة ، حسن المجالسة ، ظريف النادرة والمجانة ; خرج في بعض الأيام هو والشريفان الرضي والمرتضى وجماعة من رءوس الأكابر لتلقي بعض الملوك ، فخرج عليهم بعض اللصوص ، فجعلوا يرمونهم بالحذافات ، ويقولون : يا أزواج القحاب . فقال البتي : ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين . فقالوا : ومن أين علمت هذا ؟ فقال : وإلا من أين علموا أننا أزواج قحاب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحسن بن حامد بن علي بن مروان ، أبو عبد الله الوراق الحنبلي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان مدرس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه ، وله المصنفات المشهورة ، منها كتاب " الجامع " في اختلاف العلماء في أربعمائة جزء ، وله في أصول الدين والفقه ، [ ص: 547 ] وعليه اشتغل القاضي أبو يعلى بن الفراء ، وكان معظما في النفوس ، مقدما عند السلطان ، ولا يأكل إلا من كسب يده من النسج ، وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي وابن مالك القطيعي وغيرهما ، وخرج في هذه السنة إلى الحج ، فلما عطش الناس في الطريق استند هو إلى حجر هناك في الحر الشديد ، فجاءه رجل بقليل من ماء ، فقال له ابن حامد : من أين لك هذا ؟ فقال : ما هذا وقته ، اشرب . فقال : بلى ، هذا وقته عند لقاء الله تعالى . فلم يشرب ومات من فوره ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم ، أبو عبد الله الحليمي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب " المنهاج " في أصول الديانة ، كان أحد مشايخ الشافعية ، ولد بجرجان ، وحمل إلى بخارى ، وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في عصره ، وولي القضاء ببخارى . قال ابن خلكان : انتهت إليه الرياسة فيما وراء النهر ، وله وجوه حسنة في المذهب ، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيروز ، أبو نصر الملقب بهاء الدولة بن عضد الدولة الديلمي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب بغداد والعراق ، وهو الذي قبض على الطائع وولى القادر ، وكان يحب المصادرات ، فجمع من الأموال ما لم يجمعه أحد قبله من بني بويه ، وكان بخيلا جدا ، توفي بأرجان في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر [ ص: 548 ] وعشرين يوما ، وكانت مدة ملكه أربعا وعشرين سنة وثلاثة أيام ، وكان مرضه بالصرع ، ودفن بمشهد علي إلى جانب أبيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قابوس بن وشمكير

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان أهل دولته قد تغيروا عليه ، فبايعوا ولده منوجهر ، وقتلوا أباه كما ذكرنا في الحوادث ، وكان قد نظر في النجوم فرأى أن ولده يقتله ، وكان يتوهم أنه ولده دارا ; لما يرى من مخالفته له ، ولا يخطر بباله منوجهر ; لما يرى من طاعته له ، فكان هلاكه على يديه ، وقد قدمنا شيئا من شعره الحسن الجيد ، في الحوادث .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      القاضي أبو بكر الباقلاني ، محمد بن الطيب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأس المتكلمين على مذهب الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، ومن أكثر الناس كلاما وتصنيفا في الكلام ، يقال : إنه كان لا ينام كل ليلة حتى يكتب عشرين ورقة ، في مدة طويلة من عمره . فانتشرت عنه تصانيف كثيرة ، من جيدها كتاب " التبصرة " ، و " دقائق الحقائق " و " التمهيد " في أصول الفقه ، و " شرح الإبانة " ، وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار ، ومن أحسن تصانيفه كتابه في الرد على الباطنية ، الذي سماه " كشف الأسرار وهتك الأستار " ، وقد اختلفوا في مذهبه في الفروع ; فقيل : شافعي . وقيل : مالكي . حكى ذلك عنه [ ص: 549 ] أبو ذر الهروي وقد قيل : إنه كان يكتب على الفتاوى : كتبه محمد بن الطيب الحنبلي . وهذا غريب جدا . وقد كان في غاية الذكاء والفطنة ، ذكر الخطيب البغدادي وغيره عنه أن عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم ، فلما انتهى إليه إذا هو يدخل عليه من باب قصير ، ففهم أن مراده بذلك أن ينحني كهيئة الراكع للملك ، فدخل الباب بظهره وجعل يمشي القهقرى إلى نحو الملك ، ثم انفتل فسلم عليه ، فعرف الملك مكانه من العلم والفهم ، فعظمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويذكر أن الملك أحضر إلى بين يديه آلة الطرب المسماة بالأرغل ، ليستفز عقله بها ، فلما سمعها الباقلاني خاف أن تظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك ، فجعل لا يألو جهدا أن جرح رجله حتى خرج منها الدم الكثير ، فاشتغل بالألم عن الطرب ، ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفة ، فعجب الملك من كمال عقله ، ثم استكشف الملك عن أمره ، فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب ، فتحقق وفور علمه وعلو فهمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد سأله بعض الأساقفة بحضرة ملكهم ، فقال : ما فعلت زوجة نبيكم ؟ وما كان من أمرها فيما رميت به من الإفك ؟ فقال مجيبا له على البديهة : هما امرأتان ذكرتا بسوء ; مريم وعائشة ، فبرأهما الله عز وجل ، وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد ، وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج . يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم - عليهما السلام - فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال إلى هذه فهو إلى تلك أسرع ، وهما بحمد الله مبرأتان من السماء بوحي من الله عز وجل ، رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 550 ] وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي وغيرهما ، وقد قبله الدارقطني يوما بين عينيه ، وقال : هذا يرد على أهل الأهواء باطلهم . ودعا له . وكانت وفاة الباقلاني يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة ، ودفن بداره ، ثم نقل إلى مقبرة باب حرب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن موسى بن محمد ، أبو بكر الخوارزمي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شيخ الحنفية وفقيههم ، وقد أخذ العلم عن أبي بكر أحمد بن علي الرازي ، وانتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد ، وكان معظما عند الملوك ، ومن تلامذته الرضي والصيمري ، وقد سمع الحديث من أبي بكر الشافعي وغيره ، وكان ثقة دينا على طريقة السلف ، ويقول : ديننا دين العجائز ، لسنا من الكلام في شيء . وكان فصيحا حسن التدريس . دعي إلى ولاية القضاء غير مرة ، فلم يقبل . وكانت وفاته ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة ، ودفن بداره من درب عبدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القابسي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مصنف " التلخيص " ، أصله قروي ، وإنما غلب عليه القابسي ; لأن عمه كان يتعمم قابسية ، فقيل لهم ذلك ، وقد كان حافظا بارعا في علم الحديث ، رجلا صالحا [ ص: 551 ] جليل القدر ، ولما توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عكف الناس على قبره ليالي يقرءون القرآن ويدعون له ، وجاء الشعراء من كل أوب يرثون ويترحمون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لعمر أبيك ما نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم     ولكن البلاد إذا اقشعرت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وصوح نبتها رعي الهشيم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم بكى وأبكى ، وجعل يقول : أنا الهشيم ، أنا الهشيم . رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحافظ بن الفرضي ، أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الفرضي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قاضي بلنسية سمع الكثير ، وجمع وحصل وصنف " التاريخ " ، وفي المؤتلف والمختلف ومشتبه النسبة وغير ذلك ، وكان علامة زمانه ، قتل شهيدا على يد البربر ، فسمع ، وهو جريح طريح ، يقرأ على نفسه الحديث الذي في الصحيح : ما يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك . وقد كان سأل الله تعالى الشهادة عند أستار الكعبة ، فأعطاه الله ذلك ، ومن شعره قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أسير الخطايا عند بابك واقف     على وجل مما به أنت عارف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها     ويرجوك فيها فهو راج وخائف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى     وما لك في فصل القضاء مخالف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي     إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكن مؤنسي في ظلمة القبر عند ما .     يصد ذووا القربى ويجفو المؤالف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي     أرجي لإسرافي فإني تالف





                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية