الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 335 ] وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين عطف على جملة ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إياهم كما وصفنا ، وإن كنتم - أيها المؤمنون - معاقبين المشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بتجاوز حد ما لقيتم منهم .

فهذه الآية متصلة بما قبلها أتم اتصال ، وحسبك وجود العاطف فيها ، وهذا تدرج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويعظون ، إلى معاملة الذين يجادلون ، ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم ، وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام .

وهذا مختار النحاس ، وابن عطية ، وفخر الدين ، وبذلك يترجح كون هذه الآية مكية مع سوابقها ابتداء من الآية الحادية والأربعين ، وهو قول جابر بن زيد ، كما تقدم في أول السورة ، واختار ابن عطية أن هذه الآية مكية .

ويجوز أن تكون نزلت في قصة التمثيل بحمزة يوم أحد ، وهو مروي بحديث ضعيف للطبراني ، ولعله اشتبه على الرواة تذكر النبيء صلى الله عليه وسلم الآية حين توعد المشركين بأن يمثل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم .

والخطاب للمؤمنين ، ويدخل فيه النبيء صلى الله عليه وسلم .

والمعاقبة : الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء .

فقوله ( بمثل ما عوقبتم ) مشاكلة لـ ( عاقبتم ) ، استعمل عوقبتم في معنى عوملتم به ؛ لوقوعه بعد فعل عاقبتم ، فهو استعارة وجه شبهها هو [ ص: 336 ] المشاكلة ، ويجوز أن يكون عوقبتم حقيقة ; لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم ، وعلى شتم أصنامهم ، وتسفيه آبائهم .

والأمر في قوله فعاقبوا للوجوب باعتبار متعلقه ، وهو قوله بمثل ما عوقبتم به فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب .

وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم ، فلعل بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحنق على الإفراط في العقاب ، فهي ناظرة إلى قوله ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا .

ورغبهم في الصبر على الأذى ، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه ; لأنه أجلب لقلوب الأعداء ، فوصف بأنه خير ، أي خير من الأخذ بالعقوبة ، كقوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله .

وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل صبرتم ، كما في قوله تعالى اعدلوا هو أقرب للتقوى ، وأكد كون الصبر خيرا بلام القسم زيادة في الحث عليه .

وعبر عنهم بالصابرين إظهارا في مقام الإضمار ; لزيادة التنويه بصفة الصابرين ، أي الصبر خبر لجنس الصابرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية