الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 368 ] آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير .

استئناف وقع موقع النتيجة بعد الاستدلال فإن أول السورة قرر خضوع الكائنات إلى الله تعالى وأنه تعالى المتصرف فيها بالإيجاد والإعدام وغير ذلك فهو القدير عليها ، وأنه عليم بأحوالهم مطلع على ما تضمره ضمائرهم وأنهم صائرون إليه فمحاسبهم ، فلا جرم تهيأ المقام لإبلاغهم التذكير بالإيمان به إيمانا لا يشوبه إشراك والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ قد تبين صدقه بالدلائل الماضية التي دلت على صحة ما أخبرهم به مما كان محل ارتيابهم وتكذيبهم كما أشار إليه قوله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم .

فذلك وجه عطف " ورسوله " على متعلق الإيمان مع أن الآيات السابقة ما ذكرت إلا دلائل صفات الله دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

فالخطاب بـ " آمنوا " للمشركين ، والآية مكية حسب ما روي في إسلام عمر وهو الذي يلائم اتصال قوله وما لكم لا تؤمنون بالله إلخ بها .

والمراد بالإنفاق المأمور به : الإنفاق الذي يدعو إليه الإيمان بعد حصول الإيمان وهو الإنفاق على الفقير ، وتخصيص الإنفاق بالذكر تنويه بشأنه ، وقد كان أهل الجاهلية لا ينفقون إلا في اللذات ، والمفاخرة والمقامرة ، ومعاقرة الخمر ، وقد وصفهم القرآن بذلك في مواضع كثيرة كقوله إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين وقوله بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما وقوله ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر إلى آخر السورة .

وقيل : نزلت في غزوة تبوك ( يعني الإنفاق لتجهيز جيش العسرة قال ابن عطية عن الضحاك ، فتكون الآية مدنية ويكون قوله " آمنوا " أمرا بالدوام على الإيمان كقوله يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله .

ويجوز أن يكون أمرا لمن في نفوسهم بقية نفاق أو ارتياب ، وأنهم قبضوا أيديهم [ ص: 369 ] عن تجهيز جيش العسرة كما قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض إلى قوله ويقبضون أيديهم ، فهم إذا سمعوا الخطاب علموا أنهم المقصودون على نحو ما في آيات سورة براءة ، ولكن يظهر أن سنة غزوة تبوك لم يبق عندها من المنافقين عدد يعتد به فيوجه إليه خطاب كهذا .

وجيء بالموصول في قوله مما جعلكم مستخلفين فيه دون أن يقول " وأنفقوا من أموالكم أو مما رزقكم الله " لما في صلة الموصول من التنبيه على غفلة السامعين عن كون المال لله جعل الناس كالخلائف عنه في التصرف فيه مدة ما ، فلما أمرهم بالإنفاق منها على عباده كان حقا عليهم أن يمتثلوا لذلك كما يمتثل الخازن أمر صاحب المال إذا أمره بإنفاذ شيء منه إلى من يعينه .

والسين والتاء في " مستخلفين " للمبالغة في حصول الفعل لا للطلب لاستفادة الطلب من فعل " جعلكم " . ويجوز أن تكون لتأكيد الطلب .

والفاء في قوله فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير تفريع وتسبب على الأمر بالإيمان والإنفاق لإفادة تعليله كأنه قيل : لأن الذين آمنوا وأنفقوا أعددنا لهم أجرا كبيرا .

والمعنى على وجه كون الآية مكية : أن الذين آمنوا من بينكم وأنفقوا ، أي : سبقوكم بالإيمان والإنفاق لهم أجر كبير ، أي فاغتنموه وتداركوا ما فاتوكم به .

و " من " للتبعيض ، أي : الذين آمنوا وهم بعض قومكم .

ويجوز أن يكون فعلا المضي في قوله فالذين آمنوا منكم وأنفقوا مستعملان في معنى المضارع للتنبيه على إيقاع ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية