الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ارتقى في شكواه واعتذاره بأن دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار ، فعطف الكلام بـ ( ثم ) التي تفيد في عطفها الجمل أن مضمون الجملة [ ص: 197 ] المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها ، ؛ لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات إلقائها ؛ لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها من ملابسة زمانه . فذكر أنه دعاهم جهارا ، أي : علنا .

وجهار : اسم مصدر جهر ، وهو هنا وصف لمصدر دعوتهم ، أي : دعوة جهارا .

وارتقى فذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار ؛ لأن الجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما . فقوله أعلنت لهم تأكيد لقوله دعوتهم جهارا ذكر ليبنى عليه عطف وأسررت لهم إسرارا .

والمعنى : أنه توخى ما يظنه أوغل إلى قلوبهم من صفات الدعوة فجهر حين يكون الجهر أجدى مثل مجامع العامة ، وأسر للذين يظنهم متجنبين لوم قومهم عليهم في التصدي لسماع دعوته وبذلك تكون ضمائر الغيبة في قوله دعوتهم ، وقوله أعلنت لهم وأسررت لهم موزعة على مختلف الناس .

وانتصب جهارا بالنيابة عن المفعول المطلق المبين لنوع الدعوة .

وانتصب إسرارا على أنه مفعول مطلق مفيد للتوكيد ، أي : إسرارا خفيا .

ووجه توكيد الإسرار أن إسرار الدعوة كان في حال دعوته سادتهم وقادتهم ؛ لأنهم يمتعضون من إعلان دعوتهم بمسمع من أتباعهم .

وفصل دعوته بفاء التفريع فقال فقلت استغفروا ربكم فهذا القول هو الذي قاله لهم ليلا ونهارا وجهارا وإسرارا .

ومعنى استغفروا ربكم ، آمنوا إيمانا يكون استغفارا لذنبكم فإنكم إن فعلتم غفر الله لكم .

وعلل ذلك لهم بأن الله موصوف بالغفران صفة ثابتة تعهد الله بها لعباده المستغفرين ، فأفاد التعليل بحرف ( إن ) وأفاد ثبوت الصفة لله بذكر فعل ( كان ) . وأفاد كمال غفرانه بصيغة المبالغة بقوله غفارا .

[ ص: 198 ] وهذا وعد بخير الآخرة ورتب عليه وعد بخير الدنيا بطريق جواب الأمر ، وهو يرسل السماء عليكم الآية .

وكانوا أهل فلاحة فوعدهم بنزول المطر الذي به السلامة من القحط وبالزيادة في الأموال .

والسماء : هنا المطر ، ومن أسماء المطر السماء . وفي حديث الموطأ والصحيحين عن زيد بن خالد الجهني : أنه قال : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، الحديث . وقال معاوية بن مالك بن جعفر :


إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

والمدرار : الكثيرة الدر والدرور ، وهو السيلان ، يقال : درت السماء بالمطر ، وسماء مدرار .

ومعنى ذلك : أن يتبع بعض الأمطار بعضا .

ومدرار ، زنة مبالغة ، وهذا الوزن لا تلحقه علامة التأنيث إلا نادرا كما في قول سهل بن مالك الفزاري :


أصبح يهوى حرة معطارة

فلذلك لم تلحق التاء هنا مع أن اسم السماء مؤنث .

والإرسال : مستعار للإيصال والإعطاء ، وتعديته بـ ( عليكم ) ؛ لأنه إيصال من علو كقوله وأرسل عليهم طيرا أبابيل .

وأموال : جمع مال وهو يشمل كل مكسب يبذله المرء في اقتناء ما يحتاج إليه .

والمراد بالجنات في قوله ويجعل لكم جنات النخيل والأعناب ، ؛ لأن الجنات تحتاج إلى السقي .

وإعادة فعل ( يجعل ) بعد واو العطف في قوله ويجعل لكم أنهارا للتوكيد اهتماما بشأن المعطوف ؛ لأن الأنهار قوام الجنات وتسقي المزارع والأنعام .

[ ص: 199 ] وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش قال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة وقال ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض وقال وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية