الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه

عطف على قوله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . والخطاب للمسلمين .

و ( ما ) للاستفهام ، وهو مستعمل في معنى النفي ؛ أي : لا يثبت لكم عدم الأكل مما ذكر اسم الله عليه ؛ أي : كلوا مما ذكر اسم الله عليه ، واللام للاختصاص ، وهي ظرف مستقر خبر عن ( ما ) أي : ما استقر لكم .

و أن لا تأكلوا مجرور بـ " في " محذوفة مع أن ، وهي متعلقة بما في الخبر من معنى الاستقرار ، وتقدم بيان مثل هذا التركيب عند قوله تعالى : قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله في سورة البقرة .

ولم يفصح أحد من المفسرين عن وجه عطف هذا على ما قبله ، ولا عن الداعي إلى هذا الخطاب ، سوى ما نقله الخفاجي في حاشية التفسير عمن لقبه علم الهدى ، ولعله عنى به الشريف المرتضى : أن سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات ، تقشفا وتزهدا . ا هـ .

ولعله يريد تزهدا عن أكل اللحم ، فيكون قوله تعالى : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه استطرادا بمناسبة قوله قبله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهذا يقتضي أن الاستفهام مستعمل في اللوم ، ولا أحسب [ ص: 34 ] ما قاله هذا الملقب بعلم الهدى صحيحا ولا سند له أصلا ، قال الطبري : ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة كف عن أكل ما أحل الله من الذبائح والوجه عندي أن سبب نزول هذه الآية ما تقدم آنفا من أن المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين ، لما حرم الله أكل الميتة أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله يعنون الميتة ، فوقع في أنفس بعض المسلمين شيء ، فأنزل الله وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه أي : فأنبأهم الله بإبطال قياس المشركين المموه بأن الميتة أولى بالأكل مما قتله الذابح بيده ، فأبدى الله للناس الفرق بين الميتة والمذكى ، بأن المذكى ذكر اسم الله عليه ، والميتة لا يذكر اسم الله عليها ، وهو فارق مؤثر .

وأعرض عن محاجة المشركين لأن الخطاب مسوق إلى المسلمين لإبطال محاجة المشركين فآل إلى الرد على المشركين بطريق التعريض ، وهو من قبيل قوله في الرد على المشركين في قولهم : إنما البيع مثل الربا إذ قال : وأحل الله البيع وحرم الربا كما تقدم هنالك ، فينقلب معنى الاستفهام في قوله : وما لكم أن لا تأكلوا إلى معنى لا يسول لكم المشركون أكل الميتة ؛ لأنكم تأكلون ما ذكر اسم الله عليه ، هذا ما قالوه وهو تأويل بعيد عن موقع الآية .

وقوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم جملة في موضع الحال مبينة لما قبلها ؛ أي : لا يصدكم شيء من كل ما أحل الله لكم ؛ لأن الله قد فصل لكم ما حرم عليكم فلا تعدوه إلى غيره ، فظاهر هذا أن الله قد بين لهم من قبل ما حرمه عليهم من المأكولات ، فلعل ذلك كان بوحي غير القرآن ، ولا يصح أن يكون المراد ما في آخر هذه السورة من قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية ؛ لأن هذه السورة نزلت جملة واحدة على الصحيح ، كما تقدم في ديباجة تفسيرها ، فذلك يناكد أن يكون المتأخر في التلاوة متقدما نزوله ، ولا أن يكون المراد ما في [ ص: 35 ] سورة المائدة من قوله : حرمت عليكم الميتة لأن سورة المائدة مدنية بالاتفاق ، وسورة الأنعام هذه مكية بالاتفاق .

وقوله : إلا ما اضطررتم إليه استثناء من عائد الموصول ، وهو الضمير المنصوب بـ ( حرم ) المحذوف لكثرة الاستعمال ، و ( ما ) موصولة ؛ أي : إلا الذي اضطررتم إليه ، فإن المحرمات أنواع استثني منها ما يضطر إليه من أفرادها فيصير حلالا ، فهو استثناء متصل من غير احتياج إلى جعل ( ما ) في قوله : ما اضطررتم مصدرية .

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : وقد فصل ببناء الفعل للفاعل ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بالبناء للمجهول ، وقرأ نافع ، وحفص ، عن عاصم ، وأبو جعفر : ما حرم بالبناء للفاعل ، وقرأه الباقون : بالبناء للمجهول ، والمعنى في القراءات فيهما واحد .

والاضطرار تقدم بيانه في سورة المائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية