الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) [ ص: 500 ] وصب الشيء دام ، قال أبو الأسود الدؤلي :


لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا



وقال حسان :


غيرته الريح يسفى به     وهزيم رعده واصب



والعليل : وصيب ، لكن المرض لازم له . وقيل : الوصب : التعب ، وصب الشيء : شق ، ومفازة واصبة : بعيدة لا غاية لها . والجواز : رفع الصوت بالدعاء ، وقال الأعشى يصف راهبا :


يداوم من صلوات الملي     ك طورا سجودا وطورا جؤارا



ويروى : يراوح . دس الشيء في الشيء أخفاه فيه . الفرث : كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعى . النحل : حيوان معروف . الحفدة : الأعوان والخدم ، ومن يسارع في الطاعة ; حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ، ومنه : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نسرع في الطاعة . وقال الشاعر :


حفد الولائد حولهن وأسلمت     بأكفهن أزمة الأجمال



وقال الأعشى :


كلفت مجهودها نوقا يمانية     إذا الحداة على أكسائها حفدوا



وتتعدى فيقال : حفدني فهو حافدي . قال الشاعر :


يحفدون الضيف في أبياتهم     كرما ذلك منهم غير ذل



قال أبو عبيدة : وفيه لغة أخرى ، أحفد إحفادا ، وقال : الحفد العمل والخدمة . وقال الخليل : الحفدة عند العرب : الخدم . وقالالأزهري : الحفدة : أولاد الأولاد ، وقيل : الأختان . وأنشد :


فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت     لها حفد مما يعد كثير
ولكنها نفس علي أبية     عيوف لأصحاب اللئام قذور



( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة الله فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ ص: 501 ] ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ) : لما ذكر انقياد ما في السماوات وما في الأرض لما يريده تعالى منها ، فكان هو المتفرد بذلك . نهى أن يشرك به ، ودل النهي عن اتخاذ إلهين : على النهي عن اتخاذ آلهة . ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو : نعم الرجل زيد ، ونعم الرجلان الزيدان ، وقول الشاعر :


فإن النار بالعودين تذكى     وإن الحرب أولها الكلام



أكد الموضوع لهما بالوصف ، فقيل : إلهين اثنين ، وقيل : إله واحد ، وقال الزمخشري : الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين : على الجنسية ، والعدد المخصوص . فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم . والذي يساق به الحديث هو العدد ، شفع بما يؤكده ، فدل به على القصد إليه والعناية به . ألا ترى أنك إذا قلت : إنما هو إله ، ولم تؤكده بواحد ، لم يحسن ، وخيل : أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية ; انتهى . والظاهر أن لا تتخذوا ، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد . وقيل : هو متعد إلى مفعولين ، فقيل : تقدم الثاني على الأول وذلك جائز ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين . وقيل : حذف الثاني للدلالة تقديره : معبودا ، واثنين على هذا القول تأكيد ، وتقرير منافاة الاثنينية للإلهية من وجوه ذكرت في علم أصول الدين . ولما نهى عن اتخاذ الإلهين ، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة ، أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال : ( وإلهكم إله واحد ) بأداة الحصر ، وبالتأكيد بالوحدة . ثم أمرهم بأن يرهبوه ، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة ، وانتصب ( وإياي ) بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه ( فارهبون ) ، وتقديره : وإياي ارهبوا . وقول ابن عطية : فإياي ، منصوب بفعل مضمر تقديره : فارهبوا إياي فارهبون ، ذهول عن القاعدة في النحو ، أنه إذا كان المفعول ضميرا منفصلا والفعل متعديا إلى واحد هو الضمير ، وجب تأخير الفعل كقولك : ( إياك نعبد ) ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله :


إليك حين بلغت إياكا



ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى : أن له ما في السماوات والأرض ، لأنه لما كان هو الإله الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجودا بإيجاده وخلقه ، وأخبر أن له الدين واصبا .

قال مجاهد : الدين : الإخلاص . وقال ابن جبير : العبادة . وقال عكرمة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقامة الحدود والفرائض . وقال الزمخشري وابن عطية : الطاعة ، زاد ابن عطية : والملك . وأنشد :


في دين عمرو وحالت بيننا فدك



أي : في طاعته وملكه . وقال الزمخشري : أوله الحداد ، أي : دائما ثابتا سرمدا لا يزول ، يعني : الثواب والعقاب . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن زيد ، والثوري : واصبا : دائما . قال الزمخشري : والواصب : الواجب الثابت ، لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه ، وذكر ابن الأنباري أنه من الوصب وهو التعب ، وهو على معنى النسب ، أي : ذا وصب ، كما قال : أضحى فؤادي به فاتنا ، ، أي : ذا فتون . قال الزمخشري : أو وله الدين ذا كلفة ومشقة ، ولذلك سمي تكليفا ; انتهى . وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين ، وإن كان فيه الوصب . والوصب : شدة التعب . وقال الربيع بن أنس : واصبا : خالصا . قال ابن عطية : والواو في ( وله ما في السماوات والأرض ) عاطفة على قوله : إله واحد ، ويجوز أن تكون واو ابتداء ; انتهى . ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال ، وإنما هي عاطفة : فإما على الخبر ، كما ذكر أولا فتكون الجملة في [ ص: 502 ] تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر ، وإما على الجملة بأسرها التي هي : إنما هو إله واحد ، فيكون من عطف الجمل . وانتصب ( واصبا ) على الحال ، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور . أفغير الله : استفهام تضمن التوبيخ والتعجب ، أي : بعدما عرفتم وحدانيته ، وأن ما سواه له ومحتاج إليه ، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه ؟ ثم أخبر تعالى بأن جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه ، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية . ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . و ( ما ) موصولة ، وصلتها بكم ، والعامل فعل الاستقرار ، أي : وما استقر بكم ، و من نعمة ، تفسير لما ، والخبر ( فمن الله ) ، أي : فهي من قبل الله ، وتقدير الفعل العامل ( بكم ) خاصا ; كحل أو نزل ليس بجيد . وأجاز الفراء والحوفي : أن تكون ما شرطية ، وحذف فعل الشرط . قال الفراء : التقدير . وما يكن بكم من نعمة ، وهذا ضعيف جدا لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال ، أو متلوة بما النافية مدلولا عليه بما قبله ، نحو قوله :


فطلقها فلست لها بكفء     وإلا يعل مفرقك الحسام



أي : وإلا تطلقها ، حذف تطلقها لدلالة طلقها عليه ، وحذفه بعد أن متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله :


قالت بنات العم يا سلمى وإن     كان فقيرا معدما قالت وإن



أي : وإن كان فقيرا معدما ، وأما غير ( إن ) من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولا عليه في باب الاشتغال مخصوصا بالضرورة ، نحو قوله : أينما الريح تميلها تمل . التقدير : أينما تميلها الريح تميلها تمل . ولما ذكر تعالى أن جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده ، حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه ، وهي حالة الضر ، والضر يشمل كل ما يتضرر به من مرض أو فقر أو حبس أو نهب مال وغير ذلك . وقرأ الزهري : تجرون ، بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الجيم . وقرأ قتادة : كاشف ، وفاعل هنا بمعنى فعل ، وإذا الثانية للفجاءة . وفي ذلك دليل على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب ، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها . ومنكم : خطاب للذين خوطبوا بقوله : وما بكم من نعمة ، إذ بكم خطاب عام . والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أن آلهتهم تنفع وتضر وتشقي . وعن ابن عباس : المنافقون . وعن ابن السائب : الكفار . و ( منكم ) في موضع الصفة ، و ( من ) للتبعيض ، وأجاز الزمخشري أن تكون ( من ) للبيان لا للتبعيض ، قال : كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم . قال : ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله : ( فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) ; انتهى . واللام في ( ليكفروا ) ، إن كانت للتعليل كان المعنى : أن إشراكهم بالله سببه كفرهم به ، أي : جحودهم أو كفران نعمته ، وبما آتيناهم من النعم ، أو من كشف الضر ، أو من القرآن المنزل إليهم . وإن كانت للصيرورة فالمعنى : صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا ، بل آل أمر ذلك الجؤار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم ، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به . وإن كانت للأمر فمعناه : التهديد والوعيد . وقال الزمخشري : ليكفروا : فتمتعوا ، يجوز أن يكون من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية ، واللام لام الأمر ; انتهى . ولم يخل كلامه من ألفاظ المعتزلة ، وهي قوله : في معنى الخذلان والتخلية . وقرأ أبو العالية : فيمتعوا ، بالياء ، باثنتين من تحتها مضمومة مبنيا للمفعول ، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففا ، وهو معطوف على ( ليكفروا ) ، وحذفت النون إما للنصب عطفا إن كان ( يكفروا ) منصوبا ، وإما للجزم إن كان مجزوما إن كان عطفا ، وأن للنصب إن كان جواب الأمر . وعنه : فسوف يعلمون ، بالياء على الغيبة ، وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والتمتع هنا هو بالحياة الدنيا [ ص: 503 ] ومآلها إلى الزوال .

( ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) : الضمير في : ويجعلون ، عائد على الكفار . والظاهر أنه في ( يعلمون ) عائد عليهم . و ( ما ) : هي الأصنام ، أي : للأصنام التي لا يعلم الكفار أنها تضر وتنفع ، أو لا يعلمون في اتخاذها آلهة حجة ولا برهانا . وحقيقتها أنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تشفع ، فهم جاهلون بها . وقيل : الضمير في ( لا يعلمون ) للأصنام ، أي : للأصنام التي لا تعلم شيئا ولا تشعر به ، إذ هي جماد لم يقم بها على البتة . والنصيب : هو ما جعلوه لها من الحرث والأنعام ، قبح تعالى فعلهم ذلك ، وهو أن يفردوا نصيبا مما أنعم به تعالى عليهم لجمادات لا تضر ولا تنفع ، ولا تنتفع هي بجعل ذلك النصيب لها ، ثم أقسم تعالى على أنه يسألهم عن افترائهم واختلاقهم في إشراكهم مع الله آلهة ، وأنها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب لها ، والسؤال في الآخرة ، أو عند عذاب القبر ، أو عند القرب من الموت أقوالا . ولما ذكر الله تعالى أنه يسألهم عن افترائهم ، ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله تعالى التوالد وهو مستحيل ، ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه ، وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة . وكانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله سبحانه ، تنزيه له تعالى عن نسبة الولد إليه ، ولهم ما يشتهون : وهم الذكور ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر . وقال الزمخشري : ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفا على البنات ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور ; انتهى . وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي . وقال أبو البقاء : وقد حكاه ، وفيه نظر . وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو : وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره [ ص: 504 ] المتصل المنصوب ، فلا يجوز زيد ضربه زيد ، تريد ضرب نفسه ، إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية ، أو فقد ، وعدم ، فيجوز : زيد ظنه قائما وزيد فقده ، وزيد عدمه . والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل ، فلا يجوز زيد غضب عليه ، تريد غضب على نفسه ، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إذ يكون التقدير : ويجعلون لهم ما يشتهون . قالوا : وضمير مرفوع ، ولهم : مجرور باللام ، فهو نظير : زيد غضب عليه .

وإذا بشر ، المشهور أن البشارة أول خبر يسر ، وهنا قد يراد به مطلق الإخبار ، أو تغير البشرة ، وهو القدر المشترك بين الخبر السار أو المخبرين ، وفي هذا تقبيح لنسبتهم إلى الله المنزه عن الولد ، البنات واحدهم أكره الناس فيهن ، وأنفرهم طبعا عنهن . وظل : تكون بمعنى صار ، وبمعنى : أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى اسمها تحتمل الوجهين . والأظهر أن يكون بمعنى صار ، لأن التبشير قد يكون في ليل ونهار ، وقد تلحظ الحالة الغالبة . وأن أكثر الولادات تكون بالليل ، وتتأخر أخبار المولود له إلى النهار وخصوصا بالأنثى ، فيكون ظلوله على ذلك طول النهار . واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى . قيل : إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف ، ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد ، فترى الوجه مشرقا متلألئا . وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه ، فيربد الوجه ويصفر ويسود ، ويظهر فيه أثر الأرضية ، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ، ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده ، فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة ، وعن الغم بالاسوداد . وهو كظيم ، أي : ممتلئ القلب حزنا وغما . أخبر عما يظهر في وجهه وعن ما يجنه في قلبه . وكظيم : يحتمل أن يكون للمبالغة ، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول لقوله : ( وهو مكظوم ) ويقال : سقاء مكظوم ، أي مملوء مشدود الفم . وروى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء ، فهجرها زوجها فقالت :


ما لأبي الذلفاء لا يأتينا     يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا     وإنما نأخذ ما يعطينا



يتوارى : يختفي من الناس ، ومن سوء ، للتعليل ، أي : الحامل له على التواري هو سوء ما أخبر به ، وقد كان بعضهم في الجاهلية يتوارى حالة الطلق ، فإن أخبر بذكر ابتهج ، أو أنثى حزن . وتوارى أياما يدبر فيها ما يصنع . أيمسكه : قبله حال محذوفة دل عليها المعنى ، والتقدير : مفكرا أو مدبرا أيمسكه ؟ وذكر الضمير ملاحظة للفظ ما في قوله : من سوء ما بشر به . وقرأ الجحدري : أيمسكها على هوان ، أم يدسها ، بالتأنيث عودا على قوله : بالأنثى ، أو على معنى ما بشر به ، وافقه عيسى على قراءة هوان على وزن فعال . وقرأت فرقة : أيمسكه : بضمير التذكير ، أم يدسها : بضمير التأنيث . وقرأت فرقة : على هون ، بفتح الهاء . وقرأ الأعمش : على سوء ، وهي عندي تفسير لا قراءة ، لمخالفتها السواد المجمع عليه . ومعنى الإمساك حبسه وتربيته ، والهون : الهوان كما قال : ( عذاب الهون ) والهون ، بالفتح : الرفق واللين ، ( يمشون على الأرض هونا ) وفي قوله : على هون ، قولان : أحدهما : أنه حال من الفاعل ، وهو مروي عن ابن عباس . قال ابن عباس : إنه صفة للأب ، والمعنى : أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه ، وعلى رغم أنفه ؟ وقيل : حال من المفعول ، أي : أيمسكها مهانة ذليلة ، والظاهر من قوله : أم يدسه في التراب ، أنه يئدها : وهو دفنها حية حتى تموت . وقيل : دسها : إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس في التراب . والظاهر من قوله : ألا ساء ما يحكمون ، رجوعه إلى قوله : ( ويجعلون لله البنات ) الآية ، أي : ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم ، نافر عنهن طبعهم ، بحيث لا يحتملون نسبتهن إليهن ، ويئدونهن استنكافا منهن ، وينسبون إليهم [ ص: 505 ] الذكر كما قال : ( ألكم الذكر وله الأنثى ) وقال ابن عطية : ومعنى الآية ، يدبر : أيمسك هذه الأنثى على هوان يتجلد له ، أم يئدها فيدفنها حية ، فهو الدس في التراب ؟ ثم استقبح الله سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله ; انتهى . فعلق ألا ساء ما يحكمون بصنعهم في بناتهم مثل السوء . قيل : مثل : بمعنى صفة ، أي : صفة السوء ، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ، ووأدهن خشية الإملاق وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ . ولله المثل الأعلى ، أي : الصفة العليا ، وهي الغنى عن العالمين ، والنزاهة عن سمات المحدثين . وقيل : مثل السوء : هو وصفهم الله تعالى بأن له البنات ، وسماه مثل السوء لنسبتهم الولد إلى الله ، وخصوصا على طريق الأنوثة التي هم يستنكفون منها . وقال ابن عباس : مثل السوء : النار . وقال ابن عطية : قالت فرقة مثل : بمعنى صفة ، أي : لهؤلاء صفة السوء ، ولله الوصف الأعلى ، وهذا لا نضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ ، بل قوله : مثل ، على بابه ، وذلك أنهم إذا قالوا : إن البنات لله فقد جعلوا لله مثلا ، فالبنات من البشر ، وكثرة البنات مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء . والذي أخبر الله تعالى أنهم لهم وليس في البنات فقط ، بل لما جعلوه هم البنات جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء ، ولا غاية أبعد من عذاب النار . وقوله : ولله المثل الأعلى ، على الإطلاق ، أي : الكمال المستغنى . وقال قتادة : المثل الأعلى : لا إله إلا الله ; انتهى . وقول قتادة مروي عن ابن عباس . ولما تقدم قوله : ( ويجعلون لله البنات ) الآية ، تقدم ما نسبوا إلى الله ، وأتى ثانيا ما كان منسوبا لأنفسهم ، وبدأ هنا بقوله : للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ، وأتى بعد ذلك بما يقابل قوله : ( سبحانه وتعالى ) من التنزيه ، وهو قوله : ولله المثل الأعلى ، وهو الوصف المنزه عن سمات الحدوث والتوالد ، وهو الوصف الأعلى الذي ليس يشركه فيه غيره ، وناسب الختم بالعزيز ، وهو الذي لا يوجد نظيره ، الحكيم : الذي يضع الأشياء مواضعها .

( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) : لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التوالد له ، بين تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم [ ص: 506 ] بالعقوبة إظهارا لفضله ورحمته . ويؤاخذ : مضارع آخذ ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه . وقال ابن عطية : كأن أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر ، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى ، أو بإذاية في جهة المخلوقين ، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء ; انتهى . والظاهر : عموم الناس . وقيل : أهل مكة ، والباء في ( بظلمهم ) للسبب . وظلمهم : كفرهم ومعاصيهم . والضمير في ( عليها ) عائد على غير مذكور ، ودل على أنه الأرض قوله : من دابة ، لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض ، فهو كقوله : ( فأثرن به نقعا ) ، أي بالمكان لأن ( والعاديات ) معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان ، وكذلك الإثارة والنقع . والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح ، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها ; قاله : ابن مسعود . قال قتادة : وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام . وقال السدي ومقاتل : إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت . وسمع أبو هريرة رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وهذا نظير : ( واتقوا فتنة ) الآية ; والحديث " أنهلك وفينا الصالحون " وقال ابن السائب ، واختاره الزجاج : من دابة : من الإنس والجن . وقال ابن جريج : من الناس خاصة . وقالت فرقة منهم ابن عباس : من دابة : من مشرك يدب عليها ، ( ولكن يؤخرهم إلى أجل ) الآية ، تقدم تفسير ما يشبهه في الأعراف . وما في ( ما يكرهون ) لمن يعقل ، أريد بها النوع كقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم ) ومعنى : ويجعلون ، يصفونه بذلك ويحكمون به . وقال الزمخشري : ما يكرهون لأنفسهم من البنات ، ومن شركاء في رئاستهم ، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم ، ويجعلون له أرذل أموالهم ، ولأصنامهم أكرمها ، وتصف ألسنتهم مع ذلك أن لهم الحسنى عند الله كقوله : ( ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) ; انتهى .

وقال مجاهد : الحسنى قول قريش : لنا البنون ، يعني قالوا : لله البنات ولنا البنون . وقيل : الحسنى : الجنة ، ويؤيده : لا جرم أن لهم النار ، والمعنى على هذا : يجعلون لله المكروه ، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول : أنت تعصي الله وتقول مع ذلك : أنك تنجو ، أي : هذا بعيد مع هذا . وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث ، وكان فيهم من يقول به . أو على تقدير إن كان ما يقول من البعث صحيحا ، وأن لهم الحسنى : بدل من الكذب ، أو على إسقاط الحرف ، أي : بأن لهم . وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم : بإسكان التاء ، وهي لغة تميم ، جمع لسان المذكر نحو : حمار وأحمرة ، وفي التأنيث : ألسن كذراع وأذرع . وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام : الكذب ، بضم الكاف والذال ; والباء صفة للألسن ، جمع كذوب كصبور وصبر ، وهو مقيس ، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقاس ، وعلى هذه القراءة أن لهم مفعول تصف ، وتقدم الكلام في ( لا جرم أن ) .

وقرأ الحسن وعيسى بن عمران : لهم ; بكسر الهمزة ، و " أن " ، جواب قسم أغنت عنه ( لا جرم ) . وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود وأبو رجاء ، وشيبة ، ونافع ، وأكثر أهل المدينة : مفرطون ، بكسر الراء من أفرط حقيقة ، أي : متجاوزون الحد في معاصي الله . وباقي السبعة ، والحسن ، والأعرج ، وأصحاب ابن عباس ، ونافع في رواية ، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته ، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه . قال القطامي :


واستعجلونا وكانوا من صحابتنا     كما تعجل فراط " لوراد



ومنه " أنا فرطكم على الحوض " ، أي : متقدمكم . وقال ابن جبير ، ومجاهد ، وابن أبي هند : مفرطون : مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته . قال أبو البقاء : تقول العرب أفرطت منهم ناسا ، أي : خلفتهم ونسيتهم . وقرأ أبو جعفر : مفرطون مشددا من فرط ، أي : مقصرون مضيعون . وعنه أيضا : فتح الراء وشدها ، أي : مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى : تقدم . ثم أخبر [ ص: 507 ] تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك ، مقسما على ذلك ومؤكدا بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز ، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر ، فهو وليهم اليوم : حكاية حال ماضية ، أي : لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو ، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم ، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة . والـ في اليوم للعهد ، وهو اليوم المشهود ، فهو وليهم في ذلك اليوم ، أي : قرينهم وبئس القرين . والظاهر عود الضمير في ( وليهم ) إلى أمم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش ، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم ، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم . ويجوز أن يكون على حذف المضاف ، أي : فهو ولي أمثالهم اليوم ; انتهى . وهذا فيه بعد ، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، ولا إلى حذف المضاف . واللام في ( لتبين ) لام التعليل ، والكتاب : القرآن ، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه ، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام : كتحريم البحيرة ، وتحليل الميتة والدم ، وغير ذلك من الأحكام . وهدى ورحمة : في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله ، وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما ، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم . ودخلت اللام في ( لتبين ) لاختلاف الفاعل ، لأن المنزل هو الله ، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وقول الزمخشري : معطوف محل ( لتبين ) ليس بصحيح ، لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه . ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل ؟ .

والله أنزل من السماء ماء : قال أبو عبد الله الرازي : المقصود من القرآن أربعة : الإلهيات ، والنبوات ، والمعاد ، والقدر الأعظم منها الإلهيات ، فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية ، ثم بالإنسان ثم بالحيوان ، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض ، ثم عاد إلى تقدير الإلهيات فبدأ بذكر الفلكيات ; انتهى ملخصا . وقال ابن عطية : لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وهي في غاية الظهور ، ولا يختلف فيها عاقل ; انتهى . ونقول : لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ، ولذلك ختم بقوله : لقوم يؤمنون ، أي : يصدقون . والتصديق محله القلب ، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها . ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن ، كما قال تعالى : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها ، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل . وكذلك ( ختم ) بقوله : يسمعون ، هذا التشبيه المشار إليه ، والمعنى : سماع إنصاف وتدبر ، ولملاحظة هذا المعنى - والله أعلم - لم يختم بـ ( لقوم يبصرون ) ، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد . وقال ابن عطية : وقوله يسمعون ، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه ، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر ، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية