الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) نزلت في اليهود ، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب ، أو في مالك بن الصيف اليهودي ، إذ قال له الرسول : " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين " ؟ قال : نعم . قال : " فأنت الحبر السمين " فغضب ، ثم قال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة ، أو في فنحاص بن عازورا منهم ، قاله السدي ، أو في اليهود والنصارى ، قاله قتادة ، أو في مشركي العرب ، قاله مجاهد وغيره ، وبعضهم خصه عنه بمشركي قريش ، وهي رواية ابن أبي نجيح عنه ، وفي رواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى ( من شيء ) في مشركي قريش ، وقوله : ( من أنزل الكتاب ) في اليهود ، ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه رأي أهل الشرك ، وذكر تعالى ما من به على إبراهيم من جعل النبوة في بنيه وأن نوحا - عليه السلام - جده الأعلى ، كان الله - تعالى - قد هداه وكان مرسلا إلى قومه ، [ ص: 177 ] وأمر تعالى الرسول بالاقتداء بهدي الأنبياء ، أخذ في تقرير النبوة والرد على منكري الوحي فقال تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) ، وأصل القدر معرفة الكمية ، يقال : قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقداره ، يقدره بالضم قدرا وقدرا ، ومنه : فإن غم عليكم فاقدروا له ، أي : فاطلبوا أن تعرفوه ، ثم توسع فيه حتى قيل لكل من عرف شيئا هو يقدر قدره ، ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته ، قال ابن عباس والحسن ، واختاره الفراء وثعلب والزجاج ، معناه : ما عظموا الله حق تعظيمه ، وقال أبو عبيدة والأخفش : ما عرفوه حق معرفته . قال الماتريدي : ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفه حق معرفته ؟ قالت الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا أحصي ثناء عليك " ، وينفصل عن هذا أن يكون المعنى : ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك ، وقال أبو العالية : واختاره الخليل بن أحمد ، معناه : ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز ، وقال ابن عباس أيضا : ما آمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وقال أبو عبيدة أيضا : ما عبدوه حق عبادته ، وقيل : ما أجلوه حق إجلاله ، حكاه ابن أبي الفضل في ري الظمآن ، وهو بمعنى التعظيم ، وقال ابن عطية : من توفية القدر ، فهي عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك ، غير أن تعليله بقولهم : ( ما أنزل الله ) يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته ، إذ أحالوا عليه بعثة الرسل ، وقال الزمخشري : ما عرفوا الله حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته وأجل نعمته ، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوة ، والقائلون هم اليهود ، بدليل قراءة من قرأ : تجعلونه ، بالتاء ، وكذلك ( تبدونها ) و ( تخفون ) ، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى . انتهى . والضمير في ( وما قدروا ) عائد على من أنزلت الآية بسببه ، على الخلاف السابق ، ويلزم من قال : إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ، ولذا حكى النقاش أنها مدنية ، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي : ( وما قدروا ) بالتشديد ( حق قدره ) بفتح الدال ، وانتصب ( حق قدره ) على المصدر ، وهو في الأصل وصف أي : قدره الحق ، ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر ، والعامل في ( إذ ) ( قدروا ) ، وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليل .

( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى ، وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم ، وكانوا يقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ، وقال أبو حامد الغزالي : هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية ، وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى - عليه السلام - أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئا ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر ، وهذا خلف محال ، وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة ، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) ، فوجب القول بكونها كاذبة ، فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف ، انتهى كلامه . وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام ، وذلك أنه نقض قولهم : ( ما أنزل الله ) بقوله : ( قل من أنزل الكتاب ) ، فلو لم [ ص: 178 ] يكن النقض دليلا على فساد الكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب ، والكتاب هنا التوراة ، وانتصب ( نورا وهدى ) على الحال ، والعامل أنزل أو جاء .

( تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) التاء قراءة الجمهور في الثلاثة ، وظاهره أنه لبني إسرائيل ، والمعنى : تجعلونه ذا قراطيس ، أي أوراقا وبطائق ، وتخفون كثيرا كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها ، وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض ، فقيل : جاء به موسى وهو نور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء ، وتتناسق قراءة التاء مع قوله : ( علمتم ) ، ومن قال : إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم ، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل ، فقال خلال السؤال ، والجواب : تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ، ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكا لنظم الآية وتركيبها ، حيث جعل الكلام أولا خطابا مع الكفار وآخرا خطابا مع اليهود ، وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول ، جاء بعض الكلام خطابا للعرب وبعضه خطابا لبني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة .

( وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ) ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به ; لأن آباءهم كانوا علموا أيضا وعلم بعضهم ، وليس كذلك آباء العرب ، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم ، وقيل : الخطاب للعرب ، قاله مجاهد ، ذكر الله منته عليهم أي : علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين ، ( ولا آباؤكم ) ، وقيل : الخطاب لمن آمن من اليهود ، وقيل : لمن آمن من قريش ، وتفسير ( ما لم تعلموا ) يتخرج على حسب المخاطبين التوراة ، أو دين الإسلام وشرائعه ، أو هما ، أو القرآن ، قال الزمخشري : الخطاب لليهود أي : علمتم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - مما أوحي إليه ما لم تعلموا أنتم ، وأنتم حملة التوراة ، ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش ( لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم ) . انتهى .

( قل الله ) أمره بالمبادرة إلى الجواب ، أي : قل الله أنزله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك ; لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أن يعترف بأن منزله هو الله ، سواء أقر الخصم بها أم لم يقر ، ونظيره : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله . انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه .

( ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) أي : في باطلهم الذي يخوضون فيه ، ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه : إنما أنت لاعب ، و ( يلعبون ) حال من مفعول ذرهم أو من ضمير ( خوضهم ) ، و ( في خوضهم ) متعلق بـ ( ذرهم ) ، أو بـ ( يلعبون ) ، أو حال من ( يلعبون ) ، وظاهر الأمر أنه موادعة ، فيكون منسوخا بآيات القتال ، وإن جعل تهديدا أو وعيدا خاليا من موادعة فلا نسخ .

( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) [ ص: 179 ] أي : وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئا ، وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره ، أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة ، ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا : ( ما أنزل الله ) ، وقيل : ( قل من أنزل الكتاب ) كان تقديم وصفه بالإنزال آكد من وصفه بكونه مباركا ، ولأن ما أنزل الله - تعالى - فهو مبارك قطعا ، فصارت الصفة بكونه مباركا ، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها ، فأما قوله : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئا ، بل جاء عقب قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ) ، ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك ، ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل ، ولما كان وصفه بالبركة وصفا لا يفارق ، عبر بالاسم الدال على الثبوت .

( مصدق الذي بين يديه ) أي : من كتب الله المنزلة ، وقيل : التوراة ، وقيل : البعث ، قال ابن عطية : وهذا غير صحيح ; لأن القرآن هو بين يدي القيامة .

( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) أم القرى مكة ، وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ، ولدحو الأرض منها ، ولأنها وسط الأرض ، ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس ، والمعنى : ولتنذر أهل أم القرى ومن حولها وهم سائر أهل الأرض ، قاله ابن عباس ، وقيل : العرب ، وقد استدل بقوله : ( أم القرى ومن حولها ) طائفة من اليهود ، زعموا أنه رسول إلى العرب فقط ، قالوا : ( ومن حولها ) هي القرى المحيطة بها ، وهي جزيرة العرب ، وأجيب بأن ( ومن حولها ) عام في جميع الأرض ، ولو فرضنا الخصوص لم يكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم ، وهو ضعيف ، وحذف أهل لدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر ، كقوله : ( واسأل القرية ) ; لأن القرية لا تسأل ، ولم تحذف من فيعطف ( حولها ) على ( أم القرى ) ، وإن كان من حيث المعنى كان يصح ; لأن حول ظرف لا يتصرف ، فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولا به لعطفه على المفعول به ، وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولا به خروجا عن الظرفية ، وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلا لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها ، وقرأ أبو بكر : لينذر ، أي : القرآن بمواعظه وأوامره ، وقرأ الجمهور : ( ولتنذر ) خطابا للرسول ، والمعنى : ولتنذر بما أنزلناه ، فاللام تتعلق بمتأخر محذوف دل عليه ما قبله ، وقال الزمخشري : ( ولتنذر ) معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب ، كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار .

( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) الظاهر أن الضمير في ( به ) عائد على الكتاب ، أي : الذين يصدقون بأن لهم حشرا ونشرا وجزاء يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد ، إذ ليس في كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا ما في هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث ، والمعنى : يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة ، وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون بالقرآن ، واكتفى بذكر الإيمان بالبعث ، وهو أحد الأركان الستة التي هي : واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر ; لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ; ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث ، أن من آمن بالبعث آمن بهذا الكتاب ، وأصل الدين خوف العاقبة ، فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن ، وقيل : يعود الضمير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

( وهم على صلاتهم يحافظون ) خص الصلاة لأنها عماد الدين ، ومن حافظ عليها كان محافظا على أخواتها ، ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه ، والصلاة أشرف العبادات بعد [ ص: 180 ] الإيمان بالله ، ولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها ، قال تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) أي : صلاتكم ، ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها . روي : " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " ، وقرأ الجمهور : ( على صلاتهم ) بالتوحيد ، والمراد به الجنس ، وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر : صلواتهم بالجمع ، ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب ( الروضة ) من تأليفه ، وقال : تفرد بذلك عن جميع الناس .

( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ) ذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، قيل : وفي المستهزئين معه لأنه عارض القرآن بقوله : والزارعات زرعا والخابزات خبزا والطابخات طبخا الطاحنات طحنا واللاقمات لقما ، إلى غير ذلك من السخافات ، وقال قتادة وغيره : المراد بها مسيلمة الحنفي والأسود العنسي ، وذكروا رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - للسوارين ، وقال الزمخشري : وهو مسيلمة الحنفي أو كذاب صنعاء الأسود العنسي . وقال السدي : المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أخو عثمان من الرضاعة ، كتب آية ( قد أفلح ) بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما أملى عليه ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) عجب من تفصيل خلق الإنسان ، فقال : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال الرسول : " اكتبها ، فهكذا أنزلت " ، فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتدا ، وقال : أنا أنزل مثل ما أنزل الله ، وقال عكرمة : أولها في مسيلمة وآخرها في ابن أبي سرح ، وروي عنه أنه كان إذا أملي عليه ( سميعا عليما ) كتب هو : عليما حكيما ، وإذا قال : ( عليما حكيما ) كتب هو : غفورا رحيما ، وقال شرحبيل بن سعد : نزلت في ابن أبي سرح ، ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ارتد ، ودخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح ، فغيبه عثمان ، وكان أخاه من الرضاعة ، حتى اطمأن أهل مكة ، ثم أتى به الرسول فاستأمن له الرسول فأمنه . انتهى . وقد ولاه عثمان بن عفان في أيامه ، وفتحت على يديه الأمصار ، ففتح أفريقية سنة إحدى وثلاثين ، وغزا الأساود من أرض النوبة ، وهو الذي هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم ، وغزا الصواري من أرض الروم ، وكان قد حسن إسلامه ، ولم يظهر عليه شيء ينكر عليه ، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش ، وفارس بني عامر بن لؤي ، وأقام بعسقلان ، قيل : أو الرملة ، فارا من الفتنة حين قتل عثمان ، ومات بها سنة ست ، قيل : أو سبع وثلاثين ، ودعا ربه فقال : اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ، فقبض آخر الصبح ، وقد سلم عن يمينه وذهب يسلم عن يساره وذلك قبل أن يجتمع الناس على معاوية .

ولما ذكر القرآن ، وأنه كتاب منزل من عنده مبارك ، أعقبه بوعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الافتراء ، وتقدم الكلام على ( ومن أظلم ) ، وفسروه بأنه استفهام معناه النفي ، أي : لا أحد أظلم ، وبدأ أولا بالعام وهو افتراء الكذب على الله ، وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أو غيره ، ثم ثانيا بالخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى .

( ولم يوح إليه شيء ) جملة حالية ، أو غير موحى إليه ; لأن من قال أوحي إلي وهو موحى إليه هو صادق ، ثم ثانيا بأخص مما قبله ; لأن الوحي قد يكون بإنزال قرآن وبغيره ، وقصة ابن أبي سرح هي دعواه أنه سينزل قرآنا مثل ما أنزل الله ، وقوله : ( مثل ما أنزل الله ) ليس معتقده أن الله أنزل شيئا ، وإنما المعنى : ( مثل ما أنزل الله ) على زعمكم ، وإعادة ( من ) تدل على تغاير مدلوله لمدلول ( من ) المتقدمة ، فالذي قال ( سأنزل ) غير من [ ص: 181 ] افترى أو قال : أوحي ، وإن كان ينطلق عليه ما قبله انطلاق العام على الخاص ، وقوله : ( سأنزل ) وعد كاذب ، وتسميته إنزالا مجاز ، وإنما المعنى : سأنظم كلاما يماثل ما ادعيتم أن الله أنزله ، وقرأ أبو حيوة : ( ما نزل ) بالتشديد ، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصين فهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم ، كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وسجاح وغيرهم ، وقد ادعى النبوة عالم كثيرون ، كان ممن عاصرناه إبراهيم الغازازي الفقير ، ادعى ذلك بمدينة مالقة ، وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة ، وصلبه ، وبارقطاش بن قسيم النيلي الشاعر ، تنبأ بمدينة النيل من أرض العراق ، وله قرآن صنعه ، ولم يقتل ; لأنه كان يضحك منه ويضعف في عقله .

( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت ) الظالمون عام ، اندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم . وقيل : ( ال ) للعهد ، أي : من اليهود ومن تنبأ ، وهم الذين تقدم ذكرهم .

( والملائكة باسطو أيديهم ) قال ابن عباس : بالضرب ، أي : ملائكة قبض الروح يضربون وجوههم وأدبارهم عند قبضه ، وقاله الفراء ، وليس المراد مجرد بسط اليد لاشتراك المؤمنين والكافرين في ذلك ، وهذا أوائل العذاب وأماراته ، وقال ابن عباس أيضا : يوم القيامة ، وقال الحسن والضحاك : بالعذاب ، وقال الحسن أيضا : هذا يكون في النار .

( أخرجوا أنفسكم ) قال الزمخشري : يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح الشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط ببسط يده إلى من عليه الحق ، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له : أخرج إلي ما لي عليك الساعة وإلا أديم مكاني حتى أنزعه من أصدقائك ، ومن قال : إن بسط الأيدي هو في النار ، فالمعنى : أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا ، وفي ذلك توقيف وتوبيخ على سالف فعلهم القبيح ، وقيل : هو أمر على سبيل الإهانة والإرعاب ، وأنهم بمنزلة من تولى إزهاق نفسه .

( اليوم تجزون عذاب الهون ) أي الهوان ، وقرأ عبد الله وعكرمة : ( عذاب الهوان ) بالألف وفتح الهاء ، و ( اليوم ) من قال : إن هذا في الدنيا كان عبارة عن وقت الإماتة ، والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع ، أو الوقت الممتد المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ ، ومن قال : إن هذا في القيامة كان عبارة عن يوم القيامة أو عن وقت خطابهم في النار ، وأضاف العذاب إلى الهون لتمكنه فيه لأن التنكيل قد يكون على سبيل الزجر والتأديب ، ولا هوان فيه ، وقد يكون على سبيل الهوان .

( بما كنتم تقولون على الله غير الحق ) القول على الله غير الحق يشمل كل نوع من الكفر ، ويدخل فيه دخولا أولويا من تقدم ذكره من المفترين على الله الكذب .

( وكنتم عن آياته تستكبرون ) أي : عن الإيمان بآياته ، وجواب ( لو ) محذوف ، تقديره : لرأيت أمرا عظيما ولرأيت عجبا ، وحذفه أبلغ من ذكره ، و ( ترى ) بمعنى رأيت ; لعمله في الظرف الماضي ، وهو : ( إذ ) .

و ( الملائكة باسطو ) جملة حالية ، و ( أخرجوا ) معمول لحال محذوفة ، أي : قائلين أخرجوا ، و ( ما ) في ( بما ) مصدرية .

و ( لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) قال عكرمة : قال النضر بن الحارث : سوف تشفع في اللات والعزى ، فنزلت .

ولما قال : ( اليوم تجزون عذاب الهون ) وقفهم على أنهم يقدمون يوم القيامة منفردين لا ناصر لهم ، محتاجين إليه بعد أن كانوا ذوي خول وشفعاء في الدنيا ، ويظهر أن هذا الكلام هو من خطاب الملائكة الموكلين بعقابهم ، وقيل : هو كلام الله لهم ، وهذا مبني على أن الله - تعالى - يكلم الكفار ، وهو ظاهر [ ص: 182 ] من قوله : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ) ، ومن قوله : ( لنسألنهم أجمعين ) .

و ( جئتمونا ) من الماضي الذي أريد به المستقبل ، وقيل : هو ماض على حقيقته محكي ، فيقال لهم حالة الوقوف بين يدي الله للجزاء والحساب ، قال ابن عباس : ( فرادى ) من الأهل والمال والولد ، وقال الحسن : كل واحد على حدته بلا أعوان ولا شفعاء ، وقال مقاتل : ليس معكم شيء من الدنيا تفتخرون به ، وقال الزجاج : كل واحد مفرد عن شريكه وشفيعه ، وقال ابن كيسان : ( فرادى ) من المعبود ، وقيل : أعدناكم بلا معين ولا ناصر ، وهذه الأقوال متقاربة ، لما كانوا في الدنيا جهدوا في تحصيل الجاه والمال والشفعاء جاءوا في الآخرة منفردين عن كل ما حصلوه في الدنيا ، وقرئ : ( فراد ) غير مصروف ، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة : فرادا بالتنوين ، وأبو عمرو ونافع في حكاية خارجة عنهما : فردى مثل سكرى ، كقوله : ( وترى الناس سكرى ) وأنث على معنى الجماعة ، والكاف في ( كما ) في موضع نصب ، قيل : بدل من فرادى ، وقيل : نعت لمصدر محذوف أي مجيئا ، ( كما خلقناكم ) يريد كمجيئكم يوم خلقناكم ، وهو شبيه بالانفراد الأول وقت الخلقة ، فهو تقييد لحالة الانفراد ، تشبيه بحالة الخلق ; لأن الإنسان يخلق أقشر لا مال له ولا ولد ولا حشم ، وقيل : عراة غرلا ، ومن قال : على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، يشمل هذين القولين . وانتصب ( أول مرة ) على الظرف أي أول زمان ، ولا يتقدر أول خلق الله لأن أول خلق يستدعي خلقا ثانيا ، ولا يخلق ثانيا إنما ذلك إعادة لا خلق .

( وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) أي : ما تفضلنا به عليكم في الدنيا لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيرا ولا قدمتموه لأنفسكم ، وأشار بقوله : ( وراء ظهوركم ) إلى الدنيا لأنهم يتركون ما خولوه موجودا .

( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها ، وقال مقاتل : كانوا يعتقدون شفاعة الملائكة ويقولون : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ، و ( فيكم ) متعلق بـ ( شركاء ) والمعنى : في استعبادكم ; لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم ، وقيل : جعلوهم شركاء لله باعتبار أنهم يشفعون فيهم عنده ، فهم شركاء بهذا الاعتبار ، ويمكن أن يكون المعنى : شركاء لله في تخليصكم من العذاب وأن عبادتهم تنفعكم كما تنفعكم عبادته ، وقيل : ( فيكم ) بمعنى عندكم ، وقال ابن قتيبة : إنهم لي في خلقكم شركاء ، وقيل : متحملون عنكم نصيبا من العذاب .

( لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) قرأ جمهور السبعة : ( بينكم ) بالرفع على أنه اتسع في الظرف ، وأسند الفعل إليه فصار اسما ، كما استعملوه اسما في قوله : ( ومن بيننا وبينك حجاب ) ، وكما حكى سيبويه : هو أحمر بين العينين ، ورجحه الفارسي ، أو على أنه أريد بالبين الوصل ، أي : لقد تقطع وصلكم ، قاله أبو الفتح والزهراوي والمهدوي ، وقطع فيه ابن عطية وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل ، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية ، أو على أنه أريد بالبين الافتراق ، وذلك مجاز عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها ، فعبر عن ذلك بالبين ، وقرأ نافع والكسائي وحفص : ( بينكم ) بفتح النون ، وخرجه الأخفش على أنه فاعل ، ولكنه مبني على الفتح حملا على أكثر أحوال هذا الظرف ، وقد يقال : لإضافته إلى مبني ، كقوله : ( ومنا دون ذلك ) ، وخرجه غيره على أنه منصوب على الظرف ، وفاعل ( تقطع ) التقطع ، قال الزمخشري : وقع التقطع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشيئين ، [ ص: 183 ] تريد : أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل . انتهى . وظاهره ليس بجيد ، وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره ، فأضمره فيه ; لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر فهو محذوف ، فلا يجوز حذف الفاعل ، وهو مع هذا التقدير فليس بصحيح لأن شرط الإسناد مفقود فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ; ولذلك لا يجوز : قام ولا جلس ، وأنت تريد قام هو أي القيام ، وقيل : الفاعل مضمر يعود على الاتصال الدال عليه قوله : ( شركاء ) ولا يقدر الفاعل صريح المصدر كما قاله ابن عطية ، قال : ويكون الفعل مستندا إلى شيء محذوف ، تقديره : لقد تقطع الاتصال والارتباط بينكم ، أو نحو هذا ، وهذا وجه واضح ، وعليه فسره الناس ، مجاهد والسدي وغيرهما . انتهى . وقوله : إلى شيء محذوف ، ليس بصحيح ; لأن الفاعل لا يحذف ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( بينكم ) صفة لفاعل محذوف ، أي : لقد تقطع شيء بينكم ، أو وصل ، وليس بصحيح أيضا لأن الفاعل لا يحذف ، والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال : تسلط على ما كنتم تزعمون تقطع وضل ، فأعمل الثاني وهو ضل ، وأضمر في ( تقطع ) ضمير ( ما ) وهم الأصنام ، فالمعنى : لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم ، كما قال تعالى : ( وتقطعت بهم الأسباب ) أي : لم يبق اتصال بينكم وبين ( ما كنتم تزعمون ) أنهم شركاء فعبدتموهم ، وهذا إعراب سهل لم يتنبه له أحد ، وقرأ عبد الله ومجاهد والأعمش : ( ما بينكم ) ، والمعنى : تلف وذهب ما ( بينكم ) وبين ( ما كنتم تزعمون ) ، ومفعولا ( تزعمون ) محذوفان ، التقدير : تزعمونهم شفعاء ، حذفا للدلالة عليهما ، كما قال الشاعر :


ترى حبهم عارا علي وتحسب



أي وتحسبه عارا ، ولأبي عبد الله الرازي في هذه الآية كلام يشبه آراء الفلاسفة ، قال في آخره : وإليه الإشارة بقوله تعالى : " لقد تقطع بينكم " ، والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد انقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى . انتهى . وليس مفهوما من الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية