الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )

                          هذا النداء هو الرابع لبني آدم كافة منذ بعث الله إليهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو يؤذن بأنه هو وما قبله حكاية لما خاطب الله به كل أمة على لسان رسولها وبينه لهم من أصول دينه الذي شرعه لهدايتهم به إلى ما لا غنى لهم عنه في تكميل فطرتهم . وقد تخلل النداء الثاني والثالث بعض ما يناسب أمة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن في آياتهما ما يدل على مشاركة غيرها لها في الخطاب - وأما هذا النداء فقد صرح فيه بذكر جملة الرسل ، وذكره بعد بيان آجال الأمم ؛ ولهذا فرع عليه بيان جزاء من اتبع الرسل [ ص: 365 ] ومن كذبهم من جميع الأقوام - فهذا وجه مناسبته لما قبله فيما ظهر لنا والله أعلم . قال عز وجل :

                          ( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " التي تفيد تأكيد الشرط وكذا العموم في قول . والمعنى : إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم البشر يتلون عليكم آياتي التي أنزلها عليهم في بيان ما أفرضه عليكم من الإيمان والأعمال الصالحة المصلحة وما أحرمه عليكم من الشرك والرذائل والأعمال المفسدة - فمن اتقى ما نهيت عنه وأصلح نفسه بما أوجبت عليه ، فلا خوف عليهم مما يترتب على التكذيب والعصيان من عذاب الدنيا والآخرة ولا هم يحزنون عند الجزاء يوم القيامة ولا في الدنيا كحزن غيرهم . وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في مواضع أشبه بهذه الآية وما بعدها ( 2 : 38 : 6 : 48 فيراجع .

                          ( والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) الاستكبار عن الآيات هو رفض قبولها كبرا وعنادا لمن جاء بها أن يكون إماما متبوعا للمستكبرين ؛ لأنهم يرون أنفسهم فوقه ، أو أقوامهم فوق قومه ، أو يحبون أن يروا الناس ويوهموهم ذلك ، فرؤساء قريش المستكبرون منهم من كان يرى من الضعة والمهانة أن يكون مرءوسا للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه ؛ لأنهم أكثر منه مالا وأعز نفرا أو أكبر سنا ، فيرون أنهم أحق بالرياسة - وكان من هؤلاء بعض عشيرتهبني هاشم - ومنهم من كان يستكبر أن يتبع رجلا من بني هاشم كأبي جهل وأبي سفيان وآخرين ، مات بعضهم على الكفر ودان بعضهم بالإسلام بعد ظهوره ، ولم يكن في غير قريش من العرب من يستكبر أن يتبع رجلا منهم إلا بالتبع لعدم اتباعهم هم له ، ولكن أحبار اليهود استكبروا عن اتباعه لأنه عربي ، وهم يرون أن النبوة يجب حصرها فيهم كما تقدم في سورة البقرة . وكذلك أمراء المجوس ورؤساء دينهم إذ كانوا يحتقرون العرب كافة إلا من هدى الله من الفريقين ، ولا يزال بعض الشعوب يأبى الاهتداء بالإسلام استكبارا عن اتباع أهله ، بل نرى بعض غلاة العصبية الجنسية المرتدين عن الإسلام من الترك كذلك ، حتى نقلت صحف الأخبار عن بعضهم أنه قال إن قومه يستنكفون أن يتسفلوا لاتباع الخلفاء الراشدين ، بل قال ما هو أكبر من ذلك إثما ( ! ! ) .

                          والمعنى : أن الذين كذبوا بآياتنا المنزلة على أحد من رسلنا واستكبروا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة ، وتفضيلا لأنفسهم عليه أو لقومهم على قومه ، فأولئك أصحاب النار الذين يخلدون فيها ، لا كالذين يعذبون فيها زمنا معينا على ذنوب اقترفوها .

                          [ ص: 366 ] وجملة القول في هاتين الآيتين : أن جميع الرسل قد بلغوا أممهم أن اتباعهم في اتقاء ما يفسد فطرتهم من الشرك وخرافاته والرذائل والمعاصي ، وفي إصلاح أعمالهم بالطاعات - يترتب عليه الأمن من الخوف من كل ما يتوقع والحزن على كل ما يقع إما مطلقا وإما بالنسبة إلى غير المؤمنين المتقين ، وأن تكذيب ما جاءوا به من آيات الله والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه الخلود في النار فوق ما بين في آيات أخرى من سوء الحال في الدنيا وقد سكت عن الجزاء الدنيوي هنا لأن الآية تدل عليه ولأنه لا يظهر للناس في كل وقت .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية