الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما .

                          [ ص: 67 ] قال البقاعي في وجه اتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها ما نصه : ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا نتيجة التقوى ( كذا ) العدل والفضل والترغيب في نواله ، والترهيب من نكاله ، إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى ، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخير ، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب ، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها فكان التقدير حتما فاتقوه ، عطف عليه أو على نحو : واسألوا الله من فضله ( 4 : 32 ) ، أو على : اتقوا ربكم ( 4 : 1 ) ، الخلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق ، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق ، فقال : واعبدوا الله إلخ ، وأقول : إنه أبعد في العطف ، وأحسن في الترتيب والوصف .

                          الأستاذ الإمام : كل ما تقدم من الأحكام كان خاصا بنظام القرابة والمصاهرة ، وحال البيوت التي تتكون منها الأمة ، ثم إنه تعالى بعد بيان تلك الأحكام الخصوصية أراد أن ينبهنا على بعض الحقوق العمومية ، وهي العناية بكل من يستحق العناية ، وحسن المعاملة من الناس ، فبدأ ذلك بالأمر بعبادته تعالى ، وعبادته ملاك حفظ الأحكام والعمل بها ، وهي الخضوع له تعالى ، وتمكين هيبته وخشيته من النفس ، والخشوع لسلطانه في السر والجهر ، فمتى كان الإنسان على هذا فإنه يقيم هذه الأحكام وغيرها حتى تصلح جميع أعماله ، ولذلك كانت النية عندنا تجعل الأعمال العادية عبادات ، كالزارع ليقيم أمر بيته ويعول من يمونه ، ويفيض من فضل كسبه على الفقراء والمساكين ، ويساعد على الأعمال ذات المنافع العامة ، فعمله بهذه النية يجعل حرثه من أفضل العبادات فليست العبادة في قوله هنا : واعبدوا الله خاصة بالتوحيد كما قال المفسر " الجلال " ، بل هي عامة كما قلنا تشمل التوحيد وجميع ما يمده من الأعمال .

                          ولا تشركوا به شيئا من الأشياء ، أو شيئا من الإشراك ( قال ) : اختلف تعبيرهم والمعنى واحد ، والإشراك بالله يستلزم الإيمان به ، والنهي عنه يستلزم النهي عن التعطيل بالأولى ، أقول : يعني أن الشرك هو الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب والسنن المعروفة في الخلق بأن يرجى صاحبها ويخشى منه ما تعجز المخلوقات عن مثله ، وهذه السلطة لا تكون لغيره تعالى فلا يرجى غيره ، ولا يخشى سواه في أمر من الأمور التي هي وراء الأسباب المقدورة للمخلوقين عادة ; لأن هذا خاص به تعالى فمن اعتقد أن غيره يشركه فيه كان مؤمنا مشركا وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( 12 : 106 ) ، وأما التعطيل فهو إنكار الألوهية ألبتة ، أي إنكار تلك السلطة الغيبية التي هي مبدأ كل قوة وتصرف ، وفوق كل قوة وتصرف ، فإذا نهى تعالى أن يشرك به غيره فيما استأثر به من السلطة والقدرة والتصرف ، ولم يجعله [ ص: 68 ] من الهبات التي منحها خلقه وعرفت من سننه فيهم ، فلأن ينهى عن إنكار وجوده وجحد ألوهيته يكون أولى .

                          قال : والإشراك قد ذكر في القرآن بعض ضروبه عند مشركي العرب ، وهو عبادة الأصنام باتخاذهم أولياء وشفعاء ووسطاء عند الله تعالى ، يقربون المتوسل بهم إليه ، ويقضون الحاجات عنده كما هو المعهود من معنى الولاية والشفاعة عندهم ، والآيات في ذلك كثيرة ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ( 10 : 18 ) ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ( 39 : 3 ) .

                          وذكر أن أهل الكتاب دخل عليهم الشرك ، فالنصارى عبدوا المسيح عليه السلام ، وبعضهم عبد أمه السيدة مريم رضي الله عنها ، وقال الله في الفريقين : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا الله إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( 9 : 31 ) ، وقد ورد في تفسيره بالحديث الصحيح المرفوع : أنه كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها ، وسبق ذكر ذلك في التفسير غير مرة ، ( قال ) : فالشرك أنواع وضروب ، أدناها ما يتبادر إلى أذهان عامة المسلمين أنه العبادة لغير الله كالركوع والسجود له ، وأشدها وأقواها ما سماه الله دعاء واستشفاعا ، وهو التوسل بهم إلى الله وتوسيطهم بينهم وبينه تعالى ، فالقرآن ناطق بهذا ، وهو المشهور في كتب السير والتاريخ ، فهذا المعنى هو أشد أنواع الشرك ، وأقوى مظاهره التي يتجلى فيها معناه أتم التجلي ، وهو الذي لا ينفع معه صلاة ولا صيام ولا عبادة أخرى .

                          ثم ذكر أن هذا الشرك قد فشا في المسلمين اليوم ، وأورد شواهد على ذلك عن المعتقدين الغالين في البدوي " شيخ العرب " و " الدسوقي " وغيرهما لا تحتمل التأويل ، وبين أن الذين يؤولون لأمثال هؤلاء إنما يتكلفون الاعتذار لهم لزحزحتهم عن شرك جلي واضح إلى شرك أقل منه جلاء ووضوحا ، ولكنه شرك ظاهر على كل حال ، وليس هو من الشرك الخفي الذي وردت الأحاديث بالاستعاذة منه ، الذي لا يكاد يسلم منه إلا الصديقون ، ومنه أن يعمل المؤمن العمل الصالح من العبادة لله تعالى ويحب أن يمدح عليه أو يتلذذ بالمدح عليه ( مثلا ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية